رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صفقة غامضة.. قتال أم سلام؟

بعد أكثر من ثمانية أشهر، وتحت وابل من نيران المدفعية الإسرائيلية وبحرية جيش الاحتلال وطائراته ودباباته، أدى إلى مجزرة في مخيم (النصيرات)، بارتقاء أكثر من مائتين وخمسين شهيدًا وأكثر من أربعمائة جريح، أفلحت إسرائيل في تحرير أربعة رهائن، كانوا محتجزين لدى حماس في المخيم، بمساعدة خلية أمريكية، ساهمت في إنقاذ الرهائن، وهو فريق موجود في إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، يقوم بجمع معلومات حول الرهائن، وتعتمد هذه (الخلية) في عملها على تحليل وجمع معلومات عبر طائرات مسيرة أمريكية تحلق فوق غزة، واعتراض الاتصالات ومصادر أخرى، بالإضافة إلى استخدام رصيف المساعدات المؤقت الذي أنشأته الولايات المتحدة ومرافقه ومعداته في تحرير الرهائن، مستعينين بالمعلومات الدقيقة التي وفرتها أيضًا طائرات التجسس البريطانية عبر بصمة الصوت.
عمليةٌ تم الإعداد لها منذ فترة، للحيلولة دون استمرار بيني جانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، في الإصرار على استقالته من مجلس الحرب، وإعلانها يوم الثامن من يونيو، وهو يوم تحرير الرهائن ـ وقد فعل ـ لمنع الحرج عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ومحاولة رفع الضغوط من فوق كتفيه، وإثبات أن منهجه في إطلاق سراح الرهائن عبر تكثيف العمليات العسكرية كان صائبًا، الأمر الذي هدأ من روّع أهالي المحتجزين نسبيًا، وجعل من نتنياهو ـ مؤقتًا ـ بطلًا شعبيًا، بعد أن كان يواجه المظاهرات في الداخل الإسرائيلي، المطالبة بضرورة توقف الحرب وإعادة الرهائن إلى عائلاتهم.. ومن نافلة القول هنا، إن حماس ارتكبت خطًأ جسيمًا، باحتجازها هؤلاء الرهائن وسط مخيم مكتظ بالمدنيين، ما أوقع كل هؤلاء الضحايا الذين أشرنا إليهم سلفًا، مع تسليمنا بنبل مقاومة الاحتلال، إلا أن هناك من الأخطاء ما تكون باهظة الثمن، خصوصًا إذا كانت أرواح المدنيين هي هذا الثمن.
جاء ذلك، في الوقت الذي نقلت فيه صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية، عن مسئولين مطلعين على محادثات وقف إطلاق النار في غزة، القول إن قطر أبلغت قادة حماس في الأيام الأخيرة، بأنهم يواجهون احتمال الاعتقال وتجميد أصولهم والعقوبات والطرد من ملاذهم في الدوحة، إذا لم يوافقوا على وقف إطلاق النار مع إسرائيل، بناءً على طلب من إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، التي تبحث عن طريقة لإقناع حماس للتوصل إلى اتفاق يحتاجه الرئيس، وسط دوامة سياسية بشأن الحرب وكان له عكس التأثير المطلوب.
وفي مكالمة هاتفية، حث بايدن أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، على (استخدام جميع التدابير المناسبة لضمان قبول حماس للاتفاق)، لأنه يرى أن رد حماس هو أحدث حجر عثرة أمام جهود بايدن، لإحياء المفاوضات المتوقفة منذ فترة طويلة، نحو اتفاق يوقف القتال في غزة، ويطلق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس، مقابل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين من السجون الإسرائيلية.. الأمر الذي دعا إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة في المنفى في قطر، أنه لن يوافق على صفقة لا تلبي شروط الحركة.. وقال هنية، وهو يحمل رسالة من أهم زعيم للحركة في غزة، يحيى السنوار، إن الاقتراح الحالي ـ الذي طرحه الرئيس بايدن نفسه في مؤتمر صحفي قبل أسبوع ـ غير مقبول بالنسبة لحماس، لأنه في نظر الحركة، لا يضمن نهاية للحرب.. فهل حماس هي حقًا (الحجر العثرة) التي تقف دون إتمام اتفاق وقف إطلاق النار؟.. وكيف ستؤثر عميلة (النصيرات) على المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟.
دعونا نؤكد أولًا، على أن تحرير إسرائيل لأربع رهائن بعد أكثر من ثمانية أشهر، مع قتل ثلاث رهائن آخرين في منطقة العمليات، أحدهم يحمل أيضًا الجنسية الأمريكية ـ كما أعلنت حماس ـ بالإضافة إلى مقتل قائد القوات الخاصة في وحدة (اليمام) الإسرائيلية، (دليل فشل وليس إنجازًا)، إلا أنها ـ في نفس الوقت ـ تقوي من موقف نتنياهو ورؤيته بـ(الإفراج عن الرهائن عبر الضغط العسكري)، ونرجح ألا تكون لدى الحكومة الإسرائيلية نية للموافقة على مقترح بايدن، والمساعي الدولية لحشد الموافقة على مقترحه الذي أعلنه قبل أيام، إذ إن عملية النصيرات ستلقي بتداعياتها على مسار المفاوضات المُعقد بين إسرائيل وحماس، خصوصًا بعد تأثر (أوراق الضغط)، ممثلة في الرهائن، والتي كانت تستغلها الحركة في الجلسات التفاوضية السابقة.

كما يتوقع المحللون، أن يستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عملية (النصيرات) لحشد الدعم الداخلي، من أجل استكمال الضغط العسكري على قادة حماس لتقديم (التنازلات) حال عودة المفاوضات مجددًا، في الوقت الذي عبر فيه عدد من الوزراء الإسرائيليين عن سعادتهم وشعورهم بـ(النصر) بعد تحرير الرهائن الأربع من قبضة حركة حماس، في حين قال وزير الدفاع يوآف جالانت، (سنواصل القتال حتى يعود المائة وعشرون رهينة إلى الوطن).. وفي المقابل، قال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، إن إسرائيل لا تستطيع فرض خياراتها على الحركة، (الحركة لن توافق على أي اتفاق لا يحقق الأمن لشعبنا أولًا وقبل كل شيء).
حماس تقول، إنها لن توافق على مفاوضات بدون وقف دائم لإطلاق النار، في حين تشدد إسرائيل على أنها لن تلتزم بوقف دائم لإطلاق النار، وبالتالي فالعملية باتت أكثر تعقيدًا، كما أن تحرير الرهائن سيزيد من الضغط العسكري والسياسي على حماس، إذ أدت هذه العملية إلى تراجع ورقة (الرهائن).. وهذا يعني أن قيام إسرائيل بالضغط العسكري، يؤدي لخسارة ورقة الضغط الوحيدة لدى حماس يومًا بعد يوم.. وستدفع تلك العملية حماس إلى أحد مسارين: إما التهدئة وتقديم تنازلات حقيقية خلال المفاوضات، وعدم الدوران في نفس الحلقة المفرغة، أو تقبّل ما سوف يأتي من ضغط عسكري إسرائيلي، بعد أن دفعت العملية الحكومة الإسرائيلية لإيلاء أولوية لخيار القوة عن التهدئة، ومن ثم (ستكون هناك تداعيات على خيار الهدنة أو التوسط لحل توافقي بين طرفي الصراع.. كما أن النتائج العسكرية ستكون وخيمة على حماس وعناصرها)، خصوصًا أن عملية (النصيرات) تُعطي مؤشرًا على حجم الاختراق العميق لحماس، ودقة المعلومات عن الأسرى لدى الحركة، كما أن آليات تأمين الرهائن قد أصابها خلل كبير يتعلق بالسرية.. وهنا، بات من المهم أن ترد حماس بشكل إيجابي على مقترح بايدن للهدنة؛ لوضع نتنياهو في مأزق، وتحميله مسئولية إفشال الصفقة، وكذلك لأن مبادلة الأسرى الآن أفضل من خسارتهم أحياءً أو قتلى.
يوم السبت، يوم إتمام عملية (النصيرات)، هنأ بايدن ـ في زيارة دولة إلى فرنسا ـ إسرائيل، لكنه ربط العملية بالجهود الدبلوماسية، قائلًا، (لن نتوقف عن العمل حتى يعود جميع الرهائن إلى ديارهم، ويتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار)، كما سعى مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، إلى لفت الانتباه مرة أخرى إلى المفاوضات.. وقال في بيان (إطلاق سراح الرهائن واتفاق وقف إطلاق النار المطروح الآن، سيضمن إطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين، إلى جانب ضمانات أمنية لإسرائيل وإغاثة المدنيين الأبرياء في غزة).
ولكن في إسرائيل، في حين حث أقارب بعض الرهائن الذين تم إنقاذهم نتنياهو على اغتنام الفرصة للتوصل إلى اتفاق ينص على عودة حوالي أكثر من مائة من أسرى حماس المتبقين، لم يشر نتنياهو (المُبتهج) إلى الاقتراح في تصريحات موجهة إلى الجيش الإسرائيلي، (لقد أثبتم مرة أخرى أن إسرائيل لا تستسلم للإرهاب.. نحن ملزمون بفعل الشيء نفسه في المستقبل ـ في إشارة إلى العملية العسكرية ـ لن يهدأ لنا بال حتى نكمل مهمتنا ونعيد جميع رهائننا إلى ديارهم)، في حين  قالت حماس، في بيان نشرته على (تليجرام)، إن التقارير عن المساعدة الأمريكية في الغارة (تثبت مرة أخرى الدور المتواطئ للإدارة الأمريكية، ومشاركتها الكاملة في جرائم الحرب المرتكبة في قطاع غزة، وأكاذيب مواقفها المعلنة بشأن الوضع الإنساني في القطاع).
هذا معناه، أنه لم يعد هناك شك يذكر بين الوسطاء، في أن عملية (النصيرات) ستهز المفاوضات، ولكن ربما في اتجاه لا يريده أي منهم.. وبعد أكثر من أسبوع من إعلان الرئيس بايدن عن (لحظة حاسمة) في الحرب بين إسرائيل وغزة، التي استمرت ثمانية أشهر، وناشد الجانبين الموافقة بسرعة على اتفاق وقف إطلاق النار المدعوم من الولايات المتحدة، هناك أدلة متناقصة على أن أيًا منهما قد اشترى ما يبيعه.
وعلى الرغم من إلحاح بايدن الشخصي والعلني للغاية، وإرساله كبار مسئولي الإدارة إلى المنطقة، وصياغة قرار جديد لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وحشد الحلفاء للانضمام إلى الموافقة، لا يبدو أن إسرائيل ولا حماس قد تزحزحتا عن اختلافهما الواسع حول خريطة الطريق المقترحة لإنهاء الحرب في غزة بشكل دائم.. فالنجاح الظاهري لإسرائيل في إنقاذ أربع رهائن، على الرغم من الترحيب به، قد يزيد من تعقيد جهود الإدارة الأمريكية، ما يعزز إصرار رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، على تحقيق نصر عسكري كامل، وإطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين الذين تحتجزهم حماس، قبل إسكات الأسلحة الإسرائيلية.