رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احتفالًا بعيد ميلاد ابن رشد

لعل حادث اغتيال كاهن الإسكندرية بسلاح الإرهاب الأسود الغادر (وهو الحادث العاشر على الهوية الدينية والذي يستهدف رجال دين مسيحي بوقائع وتفاصيل مختلفة) يشير إلى أهمية مواصلة الجهود صوب الاتجاهات التي تشير إليها القراءات الوطنية والإنسانية المباشرة التالية:
- أهمية مواصلة ودعم المزيد من الجهود في مجال متابعة الكشف عن الخلايا النائمة وإفرازاتها وجهات دعمها وتمويلها لتفعيل مؤامراتهم وفرقعاتهم الإرهابية بشكل مباغت، والبحث عن آليات جديدة للفرز والإقصاء من المواقع التي يشكل وجودهم فيها خطورة فعلية (لا يمكن التوقف عند تصور أن ثورة 30 يونية المجيدة ــ التي خلصت الوطن والمواطن من وجودهم على كراسي الحكم ــ كانت كافية للقضاء على فكر وتوجهات جماعة عاشت في قلوب وعقول البسطاء منا على مدى ما يقارب القرن من الزمان.
بل وتم منح تلك الجماعة الفرص الهائلة للتمدد والسيطرة على النقابات والكثير من منظمات المجتمع المدني والتداخل الاقتصادي المريب والتأثير على مؤسسات التنشئة والتعليم وصولًا لمنحهم 88 كرسي في البرلمان المباركي).

- التنبه إلى أن انتصاراتنا الرائعة على تلك العصابات الإرهابية في سيناء والتي كلفتنا تضحيات غالية من دماء رموز مصرية عظيمة في الجيش والشرطة والمدنيين، والهزائم المتلاحقة التي تنال من عزيمة أهل الشر وجماعاتهم في الخارج، كلها أمور لا ينبغي أن نركن إليها بتصور أنها حدوتة وخلصت، بقدر أهمية القناعة بنداء "خلي السلاح صاحي".

- أهمية التيقن من أن إطالة الصراعات مهمة من مهام الجماعات الإرهابية، ومنهج رئيسي في فكر الجماعات المتطرفة، حيث إن الإرهاب يتغذى على المناطق الرخوة ومناطق الاضطراب والتي تشهد احتراق داخلي وتوترات حدودية، أو مع جماعات خارجة عن السلطات الشرعية.

- كان توجيه الرئيس عبدالفتاح السيسي بفكرة إنشاء المجلس القومي لمكافحة التطرف والإرهاب وتوجه الحكومة أن ينشأ المجلس بقانون من مجلس النواب ما يشير إلى أهمية دور مجلسنا الموقر في متابعة فعاليات وجهود ذلك المجلس وبذل كل الجهود لتعاون لجان المجلس المعنية بأمر السلام الاجتماعي والإنساني في البلاد مع لجان المجلس الوليد ونقل نبض المواطن المصري وملاحظاته حول الوجود الفعلي للعناصر الإرهابية بفكرها في مؤسسات الدولة.
ثم المطالبة بإعلان جهود المجلس النيابي في قضايا تنمية الوعي بمخاطر الإرهاب.

- وبمناسبة مجلس النواب، أعتقد أن لديكم يا نوابنا فرصة هائلة لبذل جهودكم التشريعية والرقابية والإبداعية الوطنية للمساهمة في تصويب وإصلاح وتطوير الخطابات الدينية والثقافية والإعلامية في ظل وجود قيادة سياسية وضعت اللبنة الأولى في قضايا الإصلاح.
راجعوا خطابات الرئيس منذ العام ــ بل والشهر الأول -  لولايته وناقشوها باستفاضة وابحثوا كيف يمكن ضبط الأداء الجماهيري والمؤسسي وفق مسارها المقترح من جانبه، وعلى الأقل الرد على كل من يسأل ماذا يحول دون البدء في وضع تشريعات عمل "مفوضية عدم التمييز الديني" التي ألزم الدستور بوضعها موضع التنفيذ في الانعقاد الأول للبرلمان (من سنين كتير يعني)!   
ولعل المشهد الإرهابي الذي شهدناه هذا الأسبوع لمقتل كاهن الإسكندرية الطيب المبشر الدائم برسائل السلام الاجتماعي في الشارع السكندري  يذكرنا بأهمية أدوار أهل الإصلاح والتنوير وأهمية الاستفادة بمشاعل التنوير التي رفعوها، وبالمناسبة فاليوم 14 أبريل يوافق تاريخ ميلاد المفكر والفيلسوف العبقري "ابن رشد".
والذي ظل الكثيرون يطالبون بتدريس بعض أفكاره لإعمال العقل وتجاوز عصور الاجترار والنقل والكسل والركود الذهني البليد، وابن رشد يذكره بعض المستشرقين بأنه فيلسوف قرطبة ، إذ كانت تلك المدينة من مدائن الأندلس موطن بيته ومنبته ومَغْدَاه ومَرَاحُه، وفيها يقول بعض شعراء الأندلس:
- بأربع فاقت الأمصارَ قرطبةٌ
- منهن قنطرةُ الوادي وجامعُها
- هاتان ثنتان والزهراءُ ثالثة
- والعلمُ أعظم شيء وهو رابعُها
ولا عجب فهي كما يقول ابن بَسَّام في "الذخيرة":  
"قَرَارَةُ أهل الفضل والتقى، ووطن أولي العلم والنهي، وقلب الإقليم ويَنْبُوع متفجِّر العلوم"
ونعتقد أن ابن بسام لم يبالغ فيما وصف به هذه الحاضرة؛ ففي"نفح الطِّيب" وغيره من المراجع الأصيلة التي أرَّخت الأندلس وعظمتها وأهلها على ذلك دليل، وأي دليل!
ولعل الإشارة مهمة لما جاء في كتاب "ابن رشد الفيلسوف" ما يكفي لمعاودة النداء لأن نحتفي بيوم مولد ذلك الفيلسوف.
الكتاب تأليف :
محمد يوسف موسى وهو فقيهٌ وأصوليٌّ مِصْري، وأحدُ أعلامِ الأزهرِ المُجدِّدين، الْتَحقَ بالأزهرِ لينالَ "درجةَ العالَميَّة"، وعُيِّنَ بعدَ ذلك مُدرِّسًا بمعهدِ الزقازيقِ الأزهريِّ لثلاثِ سنوات، إلا أنَّ ضَعْفَ بَصرِه سبَّبَ له عِدةَ عوائقَ ففُصِلَ مِنَ الأزهر. اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى تعلُّمِ الفرنسيةِ ليتمكَّنَ من دراسةِ الحقوقِ ومُمارسةِ المُحاماة.
يشير المؤلف إلى أن أسرة ابن رشد كانت من أكبر الأسر الأندلسية، وتُعْتَبَرُ بوجه خاص من مفاخر قرطبة؛ شغلت زمنًا طويلًا مركزًا ممتازًا في الفقه والقضاء والسياسة، وكانت موضعَ إجلالِ دولةِ المرابطين ثم دولة الموحدين على اختلاف هاتين الدولتين في النزعات والميول من ناحية العلم والعلماء وحرية التفكير.
ونشأ وهو فتى في هذه البيئة العلمية؛ فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والأصول وعلم اللغة والكلام والأدب، وأخذ عن أبيه أبي القاسم في الفقه ونحوه من علوم الدين، فاستظهر عليه موطأ الإمام مالك، وأخذ أيضًا عن غيره من جلة الفقهاء: أمثال أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مَسرة، وأبي بكر سمحون، كما يذكر ابن الأبار في كتابه "التكملة".
وهكذا درس أبو الوليد أو الحفيدُ العلمَ من مَعِينِه، وأخذه عن أعلامه، وابتدأ في العناية به منذ حداثته، واستمر على هذه العناية به، حتى ليروي ابنُ الأبار عنه "أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سوَّد فيما صنَّف وقيَّد وألَّف وهذَّب نحوًا من عشرة آلاف ورقة".. ولعمر الحق، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
وقد أعانته تلك الدراسة الجادة العالمة على أن صار علمًا من أعلام عصره البارزين، حتى صار "يُفزَع إلى فتواه في الطب كما يُفزع إلى فتواه في الفقه".
وحتى كان في علوم الأوائل "الفلسفة" "له الإمامة فيها دون أهل عصره" مع الحظ الموفور من الإعراب والآداب، ومع صحة النظر وجودة التأليف والبصر الدقيق الألمعي بالأصول والفروع.
وقُصارى القول: فإن الذين ترجموا له من العلماء المعاصرين أو الذين تأخر بهم الزمن عنه يكادون يُجمعون على أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، كذلك يصور لنا هؤلاء المؤرخون الثقاتُ ابنَ رشدٍ في دراساته وعلمه.
وللمقال تتمة في جزء أخر من المقال