رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلطة التصوف والتطرف فى «إسلام السبعينيات»

ارتدت حرب أكتوبر ثوبًا دينيًا واضحًا، سواء خلال مرحلة الإعداد لها، أو عند وقوعها وزحف المصريين لتحرير الأرض التى احتلتها إسرائيل عشية ١٩٦٧، كان الدين حاضرًا بقوة فى آليات رفع الروح المعنوية للجنود، فانطلق الدعاة وخطباء المساجد فى العمل على هذا المستوى، ولعبوا أيضًا دورًا فى استحضار القيم الدينية الداعمة للحرب والجهاد من أجل تحرير الأرض فى نفوس أفراد المجتمع المصرى ككل.

اتخذ السادات قرار العبور يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، الموافق يوم العاشر من رمضان، بما يتميز به الشهر الكريم من زخم دينى يجد صداه وأثره فى حياة المصريين. كما ترددت صيحات الله أكبر على الجبهة أثناء العبور، ودوت بها فى المقابل حناجر الشعب المصرى أيام الحرب المجيدة. خلال الحرب وبعدها ظهرت أصوات تتحدث عن أن النصر نتاج عوامل عديدة، من بينها الإيمان العميق للجندى المصرى، الذى ترجمته صيحات الله أكبر، وأن الله تعالى كان فى عون المصريين وهم يؤدون واجب تحرير الأرض، ومد بعضهم الحبل على استقامته فوقع فى فخ التدجيل، حين لغت ألسنتهم بأحاديث من نوع أن الملائكة كانت تقاتل إلى جوار المصريين.

الزخم الدينى كان حاضرًا بصورة واضحة، أيضًا، فى الأغانى الأولى التى تم إنتاجها بالتزامن مع حدث العبور، مثل الأغنية الشهيرة «بسم الله.. الله أكبر.. بسم الله أذن وكبر» التى استلهم الشاعر الكبير عبدالرحيم منصور كلماتها من صيحات الجنود على الجبهة، وأغنية «وسمينا وعدينا.. وإيد المولى ساعدتنا» للشاعرة علية الجعار، وأغنية «صدق وعده» للشاعر عبدالفتاح مصطفى، تقول كلماتها: «صدق وعده.. نصر عبده.. وأعز جنده.. لا إله إلا الله.. نَحنُ لم نَحنِ الجباه قط إلا للصلاة.. ما رميت إذ رميت.. لكن الله رمى».

كان الإحساس الدينى غالبًا على ما عداه من أحاسيس خلال أيام أكتوبر. تفوق هذا الإحساس وانعكس بشكل واضح على الخطاب الذى ألقاه السادات فى مجلس الشعب يوم ١٦ أكتوبر ١٩٧٣، فقد بدأ كما تعودت أذن المصريين بكلمة «بسم الله»، وتكررت فيه عبارة «عاهدت الله وعاهدتكم» حوالى ٦ مرات، كما ظهرت عبارات أخرى دالة على غلبة الإحساس الدينى، مثل: «حاولت مخلصًا أن أفى بالوعد ملتمسًا عون الله».. «وإنى لأحمد الله» و«قبلت راضيًا بما شاء الله» و«أدعو الله».

واختتم الرئيس السادات خطابه التاريخى داعيًا المولى عز وجل: «ربنا كن لنا عونًا وهدى.. ربنا وبارك لنا فى شعبنا وأمتنا.. ربنا إنك وعدت ووعدك الحق».. ثم تلا الآية القرآنية التى تقول: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»، بما تحمله من دلالة على أن السلطة هذه المرة ثابتة إلى الله، وقدمت الشرط الواجب حتى يمد الله تعالى يد العون لها ويمن عليها بالنصر، فجاء الجواب السماوى بنصر السادس من أكتوبر.

بدا «السادات» خلال الحرب صوفيًا كبيرًا، يحيط نفسه بمجموعة ذات توجه صوفى على رأسها الشيخ عبدالحليم محمود، شيخ الجامع الأزهر. وكانت تتردد فى الشارع، خلال هذه الأيام، حكاية تقول إن الشيخ، رحمه الله، رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيرًا وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات بتلك البشارة. وقد كان الدكتور فؤاد زكريا- رحمه الله- دائب النقد لهذه القصة.

تولى الشيخ عبدالحليم محمود أمانة مجمع البحوث الإسلامية، ثم تولى وزارة الأوقاف، بعدها صدر قرار بتعيينه شيخًا للأزهر فى شهر مارس من عام ١٩٧٣. وقد يكون من التجرؤ أن نقول إن الشيخ عبدالحليم محمود هو الأب الشرعى لنمط التدين القائم على فكرة «الدروشة»، لكن لا بد مما ليس منه بد. ومصطلح «الدروشة» يتسع فى هذا السياق؛ ليشمل «الصوفية» التى تتدروش حول ولى من أولياء الله، والجماعات الإسلامية بأطيافها المختلفة، والتى تتدروش حول «أمير»، والإسلام العام الشائع الذى يتدروش حول «داعية». 

الدروشة تعنى ببساطة التحلق حول «قطب»، وتكاد تكون «القطبانية» جوهر تدين الكثيرين، فى هذا الزمان، بعد أن زهد المسلمون فى القرآن، واستسهلوا تلقى دينهم عبر «واسطة». شكّل التصوف قاعدة انطلاق الشيخ عبدالحليم محمود نحو الشهرة واللمعان، تستطيع أن تستدل على ذلك من مؤلفاته، وأخطرها كتاب «قضية التصوف: المدرسة الشاذلية»، وقد خصص الشيخ الجزء الأكبر منه لشخصية أبى الحسن الشاذلى بطل الطقس المصرى السنوى للحج إلى «جبل حميثرة».

كان الرئيس «السادات»، رحمه الله، أيضًا وثيق الصلة وشديد الثقة بالسيد «حسن التهامى»، الذى شغل منصب وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية، خلال هذه الأيام، ولعب دورًا مهمًا فى ترتيب التفاوض مع إسرائيل وإبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وقد كان «التهامى»، كما يحكى من اقتربوا منه، يتمتع بنزعة «صوفية» لا تخطئها العين. 

فى مذكراته «بين النيل والقدس» قال الدكتور بطرس بطرس غالى: «كان حسن التهامى بمثابة عرّاف السادات، وسمير الرئيس ورجل البركة ورافع المعنويات، لقد كان التهامى ضابطًا عسكريًا جسورًا ولامعًا فى الثورة، ثم أصبح أشبه بالصوفى مؤمنًا بأنه يتلقى فى الأحلام تعليمات خاصة من الرسول، وكان يتصور نفسه صلاح الدين المصرى الذى يحمل رسالة خاصة باستعادة القدس، والزود عن الإسلام، وكان السادات يرتاح إلى وجوده ويستمتع بصحبته».

حسن التهامى لم يكن شخصًا عاديًا فى حياة الرئيس السادات، فقد كان خلطة إنسانية خاصة، جعلته ملهمًا بصورة خاصة للزعماء الذين تعامل معهم، خصوصًا أنور السادات، الذى امتاز هو الآخر بخلطته الخاصة، وميله إلى التصوف، بما يحمله من قيم تأمل وظن بقدرة النفس على عبور الحجب والتفكير خارج الصندوق، وإيجاد حلول غير تقليدية للمشاكل المزمنة.

كان السادات مرآة عاكسة لعصره الذى اختلطت فيه مشاهد التصوف بمشاهد التطرف.