رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن أيام «الهبد الأورجانيك» و«يوم الصمت» فى «بالى»

لم تَطُل جلستى على مقهى «زهرة البستان»، ظهيرة الخميس الماضى، عن ساعتين، أكثر أو أقل قليلًا، والحقيقة أننى فى زياراتى المحدودة لهذا المقهى، القابع بأحد الشوارع الجانبية بوسط القاهرة، اعتدت أن ألتزم دور المنصت لما يدور من حوارات وأحاديث، أو هكذا تعودت طوال ما يقرب من الثلاثين عامًا، فالحوارات والأحاديث هنا لنخبة من الكبار، صحفيين وأدباء وفنانين، مصريين وعرب، مستعربين ومستشرقين، ومن كل الأطياف. 

هنا، فى سنوات الشباب، كان يحلو لى الصمت فى حضرة محمد عفيفى مطر، وحلمى سالم، وسعيد الكفراوى، وإبراهيم عبدالمجيد، وهنا كانت متعة الاستماع إلى حكايات عدلى رزق الله، ومداعبات إبراهيم أصلان، ونصائح خيرى شلبى، ومحمد البساطى، وشكاوى إدريس على وابتهال سالم، ومشاغبات محمد فريد أبوسعدة، وتصحيحات ناجى الشناوى للكثير من المعلومات المغلوطة المتداولة فى الصحف والمواقع الإخبارية، خصوصًا فيما يتعلق بحياة وأعمال فنان مصر العظيم حسين بيكار، ووالده وعمه، مأمون وكامل الشناوى، وهما من هما.. هنا كانت رحلة الائتناس بكل هؤلاء، بهم وبغيرهم، الكثير والكثير من الأدباء والفنانين من كل الأجيال والأطراف والقرى.

والحقيقة أننى كنت قد استعدت بعضًا من هذه المتعة خلال الأسابيع الماضية، خصوصًا فى ظل الحضور الممتع لعدد لا بأس به من قدامى الأصدقاء من الأدباء والفنانين، فتكررت زياراتى للمقهى، وعدت إلى حيث سنوات المتعة الأولى من الصمت والاستماع، والمشاركة فى القليل من الأحاديث، إذا لزم الأمر.. لكننى خلال هاتين الساعتين الغريبتين من ظهيرة الخميس الماضى، استمعت إلى مستوى رفيع من «الهبد»، والمناقشات التى يبدو أننى قد حرمت نفسى منها لسنواتٍ طويلة، اخترت فيها الابتعاد عن دوائر الثقافة والمثقفين المصريين.. لم يكن هناك أى من الأصدقاء، فطلبت قهوتى المعتادة، وانتظرت ظهور أى منهم، ويا ليتنى ما جلست، إذ لم تمض دقائق حتى بدأت رحلة توافد بعض من الوجوه الجديدة، يعرفنى بعضهم معرفة عابرة، وأعرف بالكاد أسماء بعضهم، لكن طبيعة المكان لعبت دورها، لتبدأ رحلة «الهبد»، والأحاديث العابرة للنوع والمجال والتخصص والقارات.

بدأ الحديث بالكلام عن محمد على باشا، الذى كان الجمعة الماضى توافق ذكرى يوم ميلاده المائتين وثلاثة وخمسين، ودوره فى نهضة مصر الحديثة، وموقفه من تهريب الآثار المصرية إلى الخارج، ثم انتقل إلى المشهد الروسى الأوكرانى، والموقف الأوروبى والأمريكى، ودور مصر فى الأزمة، مرورًا بحكايات لم يسمع بها أحد عن العدوان الثلاثى على مصر، ومذكرات لخبراء وقادة أمريكيين كشفوا فيها أسرارًا لم يقرأ عنها فى الغالب سوى من كان يحكيها، وصولًا إلى حوار نجم كرة القدم محمد صلاح مع إسعاد يونس، الذى لم يكن قد أذيع بعد، لكنّ أيًا من المتحدثين لم يكن يتوقع منه ولو نقطة واحدة تستحق المشاهدة أو الانتظار.

هنا لم يكن أمامى غير ممارسة عادتى القديمة فى مثل هذه المواقف، والتى تتلخص فى وضع وجهى فى شاشة «المحمول»، والتنقل بين صفحات مواقع التواصل الاجتماعى حيث المنبع الأصلى لليالى الهبد الحزينة، مرددًا بينى وبين نفسى «أهو كله هبد»، لكن ما يميز «هبد السوشيال ميديا» أنه لا يوجد فيه من «ينغزك» فى كتفك طالبًا منك الإشادة أو التعليق، أو الرد، أو حتى الاستماع إلى ما تجود به قريحته من «هبدات عابرة»، وهنا وجدتنى أسير فى رحلة لطيفة وممتعة مع احتفال جزيرة «بالى» برأس السنة الهندوسية، وهو الاحتفال الذى توافق مع يوم الخميس الماضى.. على أن أكثر ما لفت انتباهى فى الموضوع هو طبيعة ذلك الاحتفال الذى يتم تخصيصه بالكامل للتأمل والصيام والعبادة، ويلتزم فيه الجميع بالصمت، من السادسة صباحًا وحتى السادسة من صباح اليوم التالى، ويُعرف باسم «يوم الصمت»، أو عيد «نيابى»، ومما قرأت عن ذلك اليوم العظيم أن أتباع الديانة الهندوسية فى بالى يعتقدون أن «يوم الصمت» يصادف نزول الأرواح الشريرة إلى الأرض، لذلك فإنهم قبل حلوله بساعات قليلة يتوجهون إلى المعابد للصلاة والدعاء، ويتعمدون استخدام كل ما تطاله أيديهم من أدوات، سواء فى الشوارع أو المنازل، لإصدار قدر هائل من الضوضاء لطرد الأرواح الشريرة، فإذا جاء «يوم الصمت» تصبح الجزيرة مهجورة، لا يدخلها أحد، ولا يخرج منها أحد، فيتم إغلاق الموانئ البحرية والمطار الوحيد، كما تُطفأ الأنوار فى البيوت والطرق، ويتم إغلاق الأماكن السياحية، ومراكز التسوق، ويُطلب من السياح ومن الأشخاص الذين لا يتبعون الديانة الهندوسية البقاء فى أماكن إقامتهم، كما يلتزم سكان الجزيرة طوال اليوم بعدم استخدام النار، والتقليل من الإضاءة، وعدم الذهاب إلى العمل، والحرمان من أى تسلية أو ترفيه، إلى جانب الصمت والسكون التام، ليوحوا لتلك الأرواح بخلو الجزيرة من السكان، بينما تتجمع الأسر الهندوسية فى بيت العائلة الكبير؛ ليطلبوا الصفح من بعضهم بعضًا عما بدر منهم فى العام السابق، ويبدأوا فى عمل تماثيل من الورق لوحوش ضخمة ذات أشكال مرعبة، وعندما يحل المساء يسيرون فى مواكب كرنفالية يحملون فيها المشاعل ودمى الوحوش التى يتوجهون بها إلى الشاطئ لحرقها، قبل أن يبدأوا فى السباحة والاستحمام فى البحار لغسل ذنوبهم.

هنا، كنت قد انتهيت من قهوتى، وتشبعت بما استمعت إليه من «هبدات أورجانيك، ومن اللى على أبوه»، فقررت المغادرة، والاكتفاء بما تلقيت من «نغزات تطلب المتابعة»، لكننى لم أكد أتحرك حتى وجدتنى أسأل نفسى: ماذا يمكن أن يحدث لمثل هؤلاء إن حالفهم الحظ وزار أى منهم «جزيرة بالى» فى مثل هذا اليوم؟

ووجدتنى أدعو لهم جميعًا إن ربنا يوعدهم بزيارة جزيرة «بالى» فى رأس السنة الهندوسية، على أن تكون إجراءات إلزام الجميع بطقوس الاحتفال حاسمة وقاطعة، وبعقوبات.. قادر يا كريم.