رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شبح سيد قطب يظهر بعد إعدامه

كانت نكسة ١٩٦٧- بلا مبالغة- كارثة على كافة جوانب الحياة فى مصر، بما فى ذلك الجانب الدينى. عاش المصريون عدة سنوات فى ظل حكم تُردد أجهزته فى سياق أى حرب مع إسرائيل خطابًا دينيًا ملخصه أن «الله معنا» وضد «الصهاينة»، وكأن السماء منحازة للعرب فى صراعهم مع إسرائيل. ما أكثر ما كانت تتكرر آيات مثل: «ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون»، ومثل: «إن ينصركم الله فلا غالب لكم». بعد الهزيمة الموجعة بدأت الأصوات تسأل: أين النصر الذى وعدنا الله؟ وكان رد الإسلاميين حاضرًا ساعتها بالآية القرآنية التى تقول: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»، وبسؤال مترتب عليها هو: هل نصرتم الله حتى ينصركم.. هل حققتم الشرط حتى يتأتى الجواب؟

يقول «لورانس رايت» صاحب كتاب «البروج المشيدة»: «بدا صوت عال يظهر فى المساجد قائلًا: إن المسلمين سبق وهزموا قوى أكبر من تلك الدويلة المسماة إسرائيل، إن الله لم يعد يقف بجانب المسلمين، والطريق الوحيد للعودة إلى الله هو العودة إلى الدين فى صورته النقية. لقد أعطى هذا الصوت علاجًا لليأس فى معادلة بسيطة، معادلة الإسلام هو الحل».

كانت النفوس وقتها تعيش حالة من الارتباك والتسمم لم يسبق للمصريين أن جابهوها، فخرج من بينهم بعض الإخوان، ومن يجرى جريهم، شامتين فى عبدالناصر، وكأن الضرر وقع عليه هو وليس على مصر البلد الذى يعيشون فيه، بل اعتبروا ما حدث ثأرًا إلهيًا مما فعله عبدالناصر فيهم فى السجون، وانتقامًا سماويًا للدماء التى أهدرت، ومن بينها دم سيد قطب الذى نفذ فيه حكم الإعدام ١٩٦٦. لقد تردد داخل الشارع المصرى فى ذلك الوقت أن سبب الهزيمة أن سيد قطب دعا على عبدالناصر قبل أن يعدم، وظهرت عبارة قيل إنها وردت على لسان أحد كبار العلماء المسلمين بالهند يعلق فيها على النكسة قائلًا: «إن الله لا ينصر قاتل سيد قطب فى معركة يدخلها»، مع أن أفاضل كثيرين قتلوا على يد غيرهم، بمن فيهم نبى الله يحيى، عليه السلام، ولم يربط أحد بين هزائم وقعت لقاتليهم وتواريخ مقتلهم.

لم تكن شماتة القطاع الإخوانى أو المناصر له بين المصريين جديدة، فقد سبق وشمتوا عندما بدأت الأخبار تتدفق حول خسائر المصريين فى حرب اليمن. سجّل الأديب الكبير نجيب محفوظ جانبًا من هذه الشماتة على لسان أحد أبطال رواية «باقى من الزمن ساعة»، حين سأل زوج أخته المؤيد لعبدالناصر وحركة الضباط: هل سمعت أغنية أم كلثوم «هسيبك لليمن».. ثم ضاحكًا: «قصدى هسيبك للزمن؟».

كان مزاج الإخوان وأنصارهم فى ذلك الوقت مسممًا بالشماتة، ومزاج أنصار عبدالناصر مسممًا بجلد الذات وتحقيرها والغرق فى الأوهام والتنفيس عن الجرح الغائر داخل النفس بالاستماع إلى الأغانى أو بعراكات الشارع أو بخناقات مباريات كرة القدم أو بالتدين المهزوز وطلب المدد والنجدة من السماء. 

طلاب الجامعات كانوا الأكثر استجابة لفكرة «الإسلام هو الحل»، فقد كان قطاع منهم يبحث عن ملاذ يأوى إليه بعد النكسة، خصوصًا أن أوضاع التنظيم السياسى الأوحد الذى ساد فى ذلك الوقت «الاتحاد الاشتراكى» كانت مرتبكة، ولم تعد له الهالة التى تمتع بها بعد صدور ميثاق العمل الوطنى «١٩٦٢». لم تكن أوضاع الإخوان تسمح بالعمل بعد إعدام سيد قطب واكتشاف تنظيم ١٩٦٥، والفرصة بدت مهيأة للتنظيمات العنقودية لكى تظهر، وهى فى المجمل لم تكن بعيدة عن فكر سيد قطب فى تجهيل المجتمع، ولا عن رؤيته التنظيمية التى تعتمد على توفير سبل الحماية للتنظيم العنقودى حتى ينضج ويتمكن من الدخول فى مواجهة مع السلطة.

مثلت كليتا الطب والهندسة داخل عدد من الجامعات الحضّانة الرئيسية لهذه التنظيمات، وبعد أن كانت هاتان الكليتان معقلًا للحركات الاشتراكية فى الستينيات آلت السيطرة عليها منذ أواخر الستينيات إلى التنظيمات الإسلامية الوليدة التى قدمت بديلًا فكريًا وجد فيه بعض الشباب، الذين سقطوا فى مستنقع أحزان النكسة، خلاصًا. ولم تكن كليتا الطب والهندسة الحضّانة الوحيدة لهذه التنظيمات، بل انتهز بعضها فرصة انشغال النظام الناصرى بمعالجة آثار العدوان وفى الانخراط فى حرب الاستنزاف، وبدأت تتحرك بشكل وئيد داخل بعض المساجد فى أماكن متنوعة من محافظات مصر.

حاولت التنظيمات الجديدة التى غلب عليها السلفية مواجهة طقوس البهجة المقترنة بالتدين المصرى البسيط بما يميزه من نفس صوفى محب لأهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما واجهوه هو تراتيل العيد، فامتنعوا عن الترنم فى صلاة العيد إلا بالتكبير والتحميد، وعلت أصواتهم بأن ترانيم الصلاة على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأنصاره بدعة لم تؤثر عن الرسول أو السلف الصالح. هذا الأمر على بساطته صدم الكثيرين، فترانيم العيد كانت جزءًا لا يتجزأ من الفرحة بأداء صلاته، كما أن عجب الناس كان كبيرًا من أناس يرون فى الصلاة على محمد وآله وأصحابه وأزواجه وأنصاره بدعة، رغم أن النصف الثانى من التشهد فى الصلوات الخمس هو صلاة على محمد وآله، لكن يبدو أن هذا الأمر اعتبره بعض السلفيين إحياءً لطقس شيعى انتشر أيام مصر الفاطمية التى كان المذهب الشيعى الإسماعيلى مذهبها الرسمى.

واجه الشباب المجتمع المصرى أيضًا بوجوه وسحن وأزياء لم يعتد المصريون بعد الثورة أو قبلها أن يروا هذه الفئة منهم فيها. فاللحية كانت سمت الكبار والعواجيز وليس الشباب الصغار، وقس على ذلك الجلباب الذى أصبح قصيرًا وأسفل منه البنطلون، والإمساك بالسبح، تعود المصريون أيضًا أن أغلب رواد المساجد من كبار السن، وفوجئوا وقتها بأن المساجد أصبحت تعج بالشباب.

وانتهى مشهد الستينيات بانقطاع الإرسال الإذاعى والتليفزيونى عن بث البرامج العادية صباح ٢٨ سبتمبر، وإذاعة تلاوات قرآنية ثم موسيقى عسكرية، ثم تلاوات، ليخرج بعدها أنور السادات معلنًا وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، وودعه المصريون فى مشهد مهيب، كان إيذانًا بانتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة فى ثلاثية الدين والدولة والشعب فى مصر.