رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحث عن علا وتفكيك الصورة النمطية عن المرأة

 

تصدر مسلسل «البحث عن علا» قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة على نتفليكس، خلال الفترة الماضية، كما أثار جدلًا واسعًا على منصات السوشيال ميديا نتيجة لطرحه لأنساق ثقافية ومجتمعية مختلفة. حيث يلقي مسلسل «البحث عن علا» الضوء على رحلة تعافي ووعي تعيشها «علا» بعد حدث طلاقها. 
فتبدأ الحلقة الأولى من المسلسل بمشهد افتتاحي يوضح للمشاهد العلاقة المتوترة بين «عل»ا وزوجها «هشام»؛ الذي يقود السيارة متأففًا من كلام «علا»التي تصفه بأنه لا يستطيع رفض أي طلب لوالدته وأنه دائمًا يتصف بالبطء بينما يتهمها، هو، بأنها دائمًا متوترة. ويتعرف المشاهد من خلال ذلك المشهد على طبيعة العلاقة بين «علا» ووالدة زوجها؛ ومحاولة استرضاء «علا» ل«نازلي» والدة «هشام»، بكل الطرق إلى درجة تصل إلى ارتداء ملابس لا تفضلها ولا تحبها؛ للمجرد التشبه بها. أضف إلى ذلك ترك «علا» لعملها وتفرغها لتربية أبنائها ومسئوليتها عن كل التفاصيل التي تخص زوجها. ويضعنا المشهد الافتتاحي في نهايته أمام ذروة الحدث وإنفجار «هشام» في «علا» طالبًا منها الانفصال وقراره بأنه لن يستكمل تلك العلاقة. لنستكمل الحلقة الأولى مع «علا» التي تظهر كشخصية مهزوزة، وسريعة الانفعال، وغير قادرة على المواجهة؛ تهرب من مشاعرها وقرار الانفصال من خلال تناول المهدئات والأكل بشراهة. شخصية غير واعية باحتياجاتها ومشاعرها حتى أنها تستنكر قول «هشام» حينما يخبرها عن سبب انفصاله بأنه "مش مبسوط"، وتسأله: "ومن امتى بنسأل الأسئلة الوجودية دي يا هشام؟".
ويحدث التطور في شخصية «عل»ا حينما تلتقي فيما بعد بصديقة لها كانت انقطعت الصلة بها، لتكون تلك الصديقة بوابتها إلى اكتشاف جوانب مختلفة من الحياة، بعيدًا عن دور الزوجة والأم. لتعيد علا اكتشاف نفسها، بعد أن نشأت وسط نسق ثقافي يضع قالبًا واحدًا للمرأة. ويكرس لدور  مجتمعي واحد فقط يتلخص في تكريس حياتها لخدمة زوجها وأبنائها.
حيث نجد «علا» في المشهد الاخير من الحلقة الأولى، وهي ترقص في ملهى مع صديقاتها وسط موسيقى صاخبة، وتمسك بهاتفها، بعد تردد طويل، لتغير حالتها الاجتماعية إلى مطلقة، مع تصاحب خفوت الموسيقى الصاخبة، في الخلفية، في ظل تصاعد ظهور صوت البيانو وكأنه صوت دقات قلب «علا» التي تعلو من الخوف والحزن وسط ذلك الصخب. لتكون الخلفية الموسيقية أفضل تعبير عن الحالة النفسية التي تعيشها «علا».
ونستكمل الحلقات الخمس بصحبة «علا» ورحلة الاستشفاء من خلال البحث عن ذاتها. حيث بدأت في التفكير في العمل مرة أخرى وأسمت مشروعها الجديد فرصة ثانية Second chance. ليكون اسم البراند الذي اختارته لترويج منتجاتها، ما هو إلا دلالة سمسيولوجية تشير إلى الفرصة الثانية التي تستحقها كل امرأة في الحياة بعد الطلاق.
وقد كان لكل شخصية قابلتها «علا»، في رحلة بحثها عن ذاتها، التأثير الكبير في إعادة اكتشاف احتياجاتها ورغباتها؛ واحتكاكها بشخصيات وخلفيات مختلفة مما جعلها تنتفح بشكل أكبر على نفسها وتعيد اكتشاف العالم. وقد صاحب رحلة تعافيها وبحثها عن ذاتها؛ رحلة تعافي ابنها «سليم» وانفتاحه على العالم الخارجي بعيدًا عن العالم المنغلق للألعاب الالكترونية الذي كان يعيش فيه. 
وعند الوقوف عند العديد من المشاهد في المسلسل نجد أنه يلقي الضوء على النسق الثقافي الذكوري الذي يفرض صورة ذهنية عن المرأة ويقوم بنسج قالب واحد لا تستطيع الخروج منه. حيث نجد، سهير، والدة «علا» التي تجبرها على العودة إلى «هشام» والتغاضي عن كل ما فعله وعدم هدم البيت؛ وكأن استقرار البيت وبنائه مسئولية المرأة وحدها.
كما نجد مشهد محاولة اختطاف «نادية» و«سليم» أبناء «علا» وتسلم «هشام» لهم من القسم؛ ذلك المشهد الذي يراه المشاهد من خلال وجهة نظر «علا» ليشعر المتفرج بأنه متورطًا داخل المشهد؛ وذلك من خلال لقطة Point of view  ل«عل»ا؛ يظهر فيها «هشام» وهو يتوجه بالاتهام إلى الكاميرا / علا بأنها أم مهملة لأنه ترك لها الأولاد لتربيتهم والحفاظ عليهم، بينما، على الجانب الآخر، كان يلهو «هشام» مع صديقته الجديدة التي تصغره بعشرين عام. ليكشف ذلك المشهد إزدواجية المعايير التي يعيشها المجتمع الذكوري، والسخرية من القيم التي وضعها النظام الأبوي والقهر الذي تتعرض له المرأة في ظل تلك الأعراف المجتمعية التي تنصف الرجل دائمًا.
ولعبت الأزياء دورًا مهمًا ومحوريًا في تسليط الضوء على رحلة تعافي علا؛ حيث نجد في المشهد الأول من الحلقة الأولى ارتداء «علا» لزي تقليدي تسعيناتي تحاول التشبه من خلاله بوالدة زوجها واسترضائها، لننتقل في المشاهد التالية إلى «علا» التي ترتدي جوارب مختلفة في كل قدم، وترتدي ملابس باهتة الألوان وتذهب إلى مدرسة أولادها بالملابس التي كانت ترتديها أثناء نومها؛ وصولًا إلى «علا» التي تقوم بارتداء ألوان مبهجة تعبر عن انفتاحها على الحياة؛ لتشكل الألوان هنا إشارة سيميائية للحالة النفسية لشخصية علا ورحلة بحثها عن قوالب مختلفة للحياة.
ولعبت الصورة البصرية ووضعيات الشخصيات داخل الكادر والتكوين المشهدي دورًا لا يمكن إغفاله في رحلة تطور «علا». حيث نجد المشهد الافتتاحي في الحلقة الأولى، ولقطة من زاوية منخفضة Low Angle Shot  لشخصية «نازلي» كإشارة إلى تسلط تلك الشخصية وتحكمها. على الصعيد الآخر، ومع تطور الأحداث، واستعادة ثقة «علا» في ذاتها نجد في مشهد تمرد «علا» على «نازلي» وعدم سماحها بالتحكم فيها؛ وتجسد ذلك بصريًا من خلال تصوير «علا» من زاوية منخفضة لتحتل علا المكانة الأعلى من الكادر؛ وتكون تلك علامة سيميولوجية إلى تبدل الأدوار بين علا ونازلي.
أضف إلى ذلك المشهد الذي يجمع بين «علا» ووالدتها واعتراف «علا» أنها لم تعد تطيق التحكم فيها من قبل والدتها مرة أخرى وأنها لن تسمح بأن تشكل والدتها مسار حياتها؛ نجد أيضًا أن «علا» تحتل أعلى الكادر بينما تقف والدتها أسفل الكادر مما يعطي انطباعًا بصريًا بأن «علا» هي التي تقوم بتشكيل حياتها والتحكم فيها بدلًا عن والدتها التي تحكمت في «علا» ومسار حياتها لمدة أربعين عام. ويمتزج في الخلفية صوت البيانو مع الآلات الوترية خالقًا حالة من الشجن والحزن الذي تعيشه كلتاهما الإبنة / والأم. الأم التي تجسد، دون قصد، النسق الثقافي الذكوري ومفهوم التضحية وتكريس حياة المرأة في سبيل إسعاد زوجها وتلبية رغباته. بينما تعيش الابنة / علا حالة من الوعي والكشف عن احتياجاتها تجعلها ترفض تلك القولبة والصورة النمطية التي تفرضها عليها والدتها وتجبرها بها التقاليد والأعراف المجتمعية.
وقد شكل الأداء الجسدي ركيزة أساسية في تطور شخصية «علا»، حيث تتصف «علا» في بداية المسلسل بالأداء الجسدي الانفعالي والمتوتر، والتلعثم في الحديث؛ بينما نجد «علا» في نهاية المسلسل وهي تتحدث بشكل واثق ويظهر ذلك جليًا في المشهد الاخير من المسلسل  وهي تجيب المراكبي الذي يسألها "هتكملي ولا تنزلي يا مدام؟" حيث تسحب «علا» يدها من يد «مروان»، والد صديقة ابنتها وصديقها، قائلة في إصرار وابتسامة واثقة "هكمل". ثم نجد «علا» تعتلي مقدمة المركب، بدلًا من «مروان»، وعلى وجهها ابتسامة ثقة. لتكون تلك اللقطة هي المعادل البصري لوصول «علا» إلى الاكتفاء بذاتها، وعدم حاجتها إلى المساعدة الخارجية لتحقيق سعادتها.
وقد جسدت تلك اللقطة الجوية البانورامية المعادل البصري لفكرة تحرر «علا» من كل القيود والأعراف المجتمعية التي كانت تحملها فوق كاهلها لسنين طويلة.
ليكون المسلسل بذلك رحلة بحث كل امرأة في مجتمعنا الشرقي عن ذاتها، وتفكيك لكل الصور الذهنية والقوالب الجامدة التي كرس لها المجتمع الأبوي. كما يعد المسلسل دعوة لإعادة النظر والتساؤل في كل الأدوار المجتمعية التي حددها المجتمع للمرأة.