رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يونان لبيب رزق وبرلمان طنطا

معلوم أن دراسة التاريخ كما يراها علماء ذلك التخصص العلمي، شأُنها كشأنِ أيِ دِراسة أُخرى للمعرفة الإنسانية، تستلزم من صاحبِها إتقان منهجٍ علميٍ محدد له أدواته وأساليبه الخاصة في تناولِ الحدث التاريخي بالدرسِ والنقدِ والتمحيص، فالتأريخ فن متميز لا يقتصر على رِواية مجموعة من الحوادث التاريخية المتعاقبة دون التحققِ من أُصولها  والإشارة لظروفها التاريخية والمكانية، وذكرِ حال مؤرخيها، فذلك جهد بسيط يمكن لأيِ شخص القيام به،  أما التأريخ فيتطلب باحثًا مؤهلًا سبق إعداده علميًا وله نصيب من إتقانِ بعض العلومِ المهمة التي تساعده على دراسة النص وتفسيرِه.
هناك مؤرخون يرصدون الأحداث التاريخية في مشهدها الخارجي دون سبر أغوار ما وراء الحدث ودون الاقتراب  من قيمة ومعنى وأبعاد حقيقته ومؤشراتها، وهناك المؤرخ الذي قد يكون ضليعًا في نسج مؤامرة باللعب بالتاريخ عبر قراءة مغرضة دون مراقبة من ضمير ، أما المؤرخ الصادق الأمين المحترف النزيه فهو المجتهد في فن السرد القائم على الفهم والتحليل بمثالية علمية دون تهوين أو تهويل في العرض، ومعلوم أن ذكر الحق عند كتابة التاريخ يعرض صاحبه في الكثير من الأحيان للانخراط في معارك حامية ويناله غضب من أصحاب المصالح الزائفة في تزوير التاريخ. 
وأرى أن " د. يونان لبيب رزق " من الفصيل الأخير، فهو خير نموذج  للمؤرخ المثالي وفق التعريفات السابق الإشارة إليها والذي تتجدد ذكرى رحيله في شهر يناير من كل عام، وهو بالقطع أحد أشهر مؤرخي مصر المعاصرين، ومن الأدوار الوطنية المهمة التى اضطلع بها دوره الذي أداه بروعة ووطنية وتميز أثناء شغله عضوية هيئة الدفاع المصرى في قضية طابا عام 1988، حيثُ لعب دورًا جوهريًا في مسيرة إعادتها لمصر من خلال الوثائق التاريخية والصور التى قدمها للجنة التحكيم والتى حسمت بشكل قاطع ملكية مصر لهذه المنطقة في سيناء، ومن أدواره الوطنية أيضًا عضوية الوفد المصري في مؤتمر مدريد عام 1990، وعضوية الوفد المصري في المفاوضات مع السودان حول قضية حلايب خلال عامي 1992و1993..
ولعل موسوعته التاريخية العظيمة " الأهرام ــ ديوان الحياة المعاصرة " التي اعتمد فيها على إصدارات تلك المؤسسة العملاقة تعد من أعظم إنجازاته التاريخية والفكرية .. ومن سردياته التاريخية الطريفة يذكر مؤرخنا أنه في عام 1876 كان صدور جريدة الأهرام وقبل صدورها بعشر سنوات كان وجود البرلمان المصري ، تحت اسم " مجلس شورى النواب " عام 1866، وعند افتتاح هذا المجلس لأول مرة يحكي لنا  د. يونان أنه قد تواترت قصة مؤداها أن أعضاء المجلس رفضوا الجلوس في المقاعد الواقعة إلى اليسار لأنها تعنى أنهم معارضون، وهم يستحيل أن يكونوا كذلك  وكما قال أحدهم " كلنا عبيد أفندينا فكيف نكون مقاومين لحكومته" (!)  ..
ويستطرد " اختلف الأمر تمامًا بعد عشر سنوات، فقد اجتمعوا خارج القلعة، مقر المجلس، بل وخارج القاهرة، في طنطا، حيث أعلنوا معارضتهم لكثير من سياسات حكومة أفندينا وقد انعقد هذا الاجتماع في 7 أغسطس 1876 أي بعد صدور العدد الأول من الأهرام بيومين فحسب، وكان للجريدة مع برلمان طنطا قصة وإن كنا نرى نبل روايتها تقديم تفسير لهذا التغير الكبير .. فمجمل ما حدث خلال ذلك العقد هو الذى أدى إليه..
بعض هذا التغيير نتج عن النمو المطرد للرأي العام المصري، وهو نمو صنعه اتساع نطاق التعليم، وتوالى صدور الصحف، وزيادة جسور الاتصال مع الغرب ... وقد حقق برلمان طنطا من خلال العديد من التطورات المبدأ الذى تأسست عليه الحياة البرلمانية في دول العالم من قبل : مبدأ " لا ضرائب بدون تمثيل " وهو المبدأ الذى استقر إبان الثورتين الأمريكية والفرنسية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، أي قبل اجتماع طنطا بقرن! .. بدا ذلك في أول مناسبة احتاجت فيها الحكومة الخديوية لفرض ضريبة جديدة وكانت بعد أقل من عام من برلمان طنطا .. المناسبة كانت الضريبة التي تقرر فرضها لتمويل القوات المصرية التي رؤي إرسالها للمحاربة إلى جانب قوات الدولة العثمانية في حربها مع روسيا مما دعا الخديو إلى الدعوة إلى جلسة أخرى " فوق العادة " وكانت ثاني جلسة من هذا النوع في أقل من عام...
ولعل من الأهمية بمكان أن نتوقف عند رأي مؤرخنا الكبير حول علم التاريخ ، قال " نحن في علم التاريخ ، لا ننزع كثيرًا إلى التنبؤ ، إلا أننا نفهم أن العولمة ليست مجرد نظام اقتصادي أو نظام معلومات، ولكنها في نفس الوقت نظام فكري، هي نظام فكري ليس بمعنى الذوبان في محيط أفكار الآخرين، ولكن بمعنى القبول ببعض هذه الأفكار ... الخندقة وراء ترويع الناس وتخويفهم من الآراء الوافدة هو أمر خاطئ، فلماذا لا أختار ما يناسبني من هذا الفكر الوافد وأصدر ما عندي، جائزة نوبل للأستاذ نجيب محفوظ دلالة على قدرتنا على هذا التصدير ... 
ويذكر د. يونان " لقد كتبت عمودًا صحفيًا مرة تحت عنوان " أهل الكهف وأهل الهامبورجر" ، وقلت : إن لدينا مشكلة هؤلاء الذين لا يريدون أن يقبلوا أي شيء يأتيهم من الغرب وهؤلاء الذين يريدون أن يقبلوا كل شيء من الغرب .. فكيف نجد صيغة وسطًا بين الكهف والهامبورجر .. هذه هي القضية.