رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاقتصاد العالمى.. هل يسير نحو حرب عملات؟

 

ترتبط "حرب العملات" بالإمبراطوريات الاقتصادية الكبرى، ففى السابق كان الصراع بين عملتى الإسترلينى والفرنك الفرنساوى، وبعد الحرب العالمية الثانية اكتسح الدولار الجميع حتى الآن، وهذا بالطبع لا يمنع أن بعض العملات الكبيرة حتى الآن لها وزنها فى النظام المالى والنقدى العالمى، مثل اليورو والإسترلينى والين اليابانى، وتدخل الدول الصناعية الكبرى فى هذا النوع من الحروب من حين إلى آخر، والتى تعنى ببساطة أن تقوم الدول بالتلاعب فى قيمة العملة الوطنية بتخفيضها أو الحيلولة دون ارتفاعها، فى محاولة لتشجيع الصادرات وخفض الواردات، أى محاولة تعزيز قدراتها التنافسية.

لكن بالطبع نجاح هذه السياسة يعتمد على مدى قوة القطاع التصديرى وتنوعه، وهذا الاتجاه نحو تخفيض العملة عن عمد انتهجته مؤخرًا تركيا، وبالفعل كان لذلك أثر إيجابى نوعًا ما على السياحة وحركة الصادرات؛ لأن العملة فقدت أكثر من ٣٦٪ من قيمتها، ولكن من منظور آخر نجد أن هذه الإيرادات لا تعوض الخسائر الناجمة عن موجة التضخم العالمية التى قد يكون لم يصل إليها العالم من قبل، كما أن السياحة لا تزال مهددة بالإغلاق بسبب الانتشار السريع للمتحور "أوميكرون"، ومن ثّم فإن ما تحقّق من إيرادات لا يعادل ما حدث من خسائر، أى لا يزيل آثار التضخم على السلع والخدمات تمامًا. 

تمثل أسعار صرف العملات العالمية إحدى قنوات التصادم الاقتصادى بين الاقتصادات الكبرى، حيث أصبحت الدول تتدخل فى أسعار صرف عملاتها بطرق مختلفة، بهدف التأثير على بعض المؤشرات الاقتصادية، كعجز الحساب الجارى، والميزان التجارى، والمديونية، وغيرها من المؤشرات.. وفى حال قيام الدولة باتخاذ قرار بالدخول فى المنافسة عبر أسعار الصرف عن طريق خفض أسعار الفائدة، أو تطبيق سياسات مالية لخفض قيمة عملاتها، أو التسيير الكمى لعرض نقودها، فإن حرب العملات ستكون قد بدأت وقد لا تنتهى بسهولة، وهو ما ينعكس على أسعار صرف عملات الدول الأخرى المرتبطة بسلة العملات الدولية. 

ويشهد العالم الآن أولى مراحل حرب العملات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتى ستكون فى الفترة المقبلة سببًا أساسيًا للتغيرات التى ستشهدها العلاقات الاقتصادية بين الدول بعضها البعض، وهو أمر يذكرنا بما حدث عام ٢٠١٩ عندما طالب الرئيس ترامب بفرض ١٠٪ كتعريفة جمركية على واردات الصين بقيمة تتجاوز ٣٠٠ مليار دولار، وهو ما جعل الصين تقوم برد فعل سريع من خلال البنك المركزى الصينى لتخفيض قيمة اليوان أمام الدولار، ليتخطى ٧ دولارات لأول مرة بعد الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨، وكان لذلك تأثيره السريع والمباشر على سوق المال الأمريكية والتى لحقت بها خسائر ضخمة، كما أن انخفاض قيمة اليوان مثّل خسارة للشركات الأمريكية فى الداخل والخارج، إذ تسبب قرار الصين فى زيادة الطلب على السلع الصينية داخل السوق الأمريكية وخارجها.

فالصراع بين الاقتصادين الكبيرين على الساحة الدولية، سواء اتخذ شكل حرب عملات أو حرب تجارية من نوع آخر، فإن هدفه الأساسى هو محاولة الهيمنة والسيطرة على السوق العالمية بتقليص قوة المنافس، فالعلاقات الاقتصادية الأمريكية الصينية من أكثر العلاقات تعقيدًا، إذ تتراوح بين التقارب والتصارع فى آنٍ واحد، لكن يجب أن نتذكر دائمًا أن الدولار يسيطر حتى الآن على أكثر من ٨٠٪ فى التعاملات التجارية فى العالم، وتُسعّر السلع وفقًا له، فإن أى تغير فى قيمته أو تعرضه لهزة كبيرة ستترتب عليه أزمة أكبر مما نحن عليه الآن فى الاقتصاد العالمى، وسيتأثر الكثير من اقتصادات الدول، وبالطبع فى مقدمتها الدول العربية، وسيتركز هذا التأثير المباشر على ميزان المدفوعات، خاصة الدول التى تعتمد أساسًا على مردود سلعة واحدة مثل النفط الخام الذى يُقوم سعره بالدولار، ذلك أن الفائض فى الميزان التجارى لكثير من الدول النفطية يعنى أن أى خلل فى هذه الصادرات سيُحدث عجزًا كبيرًا فى الميزان التجارى، وبالطبع يزول هذا الخطر مع قدرة هذه الدول على توطين الزراعة والصناعة والاستثمار بوجه عام؛ مما يبعد اقتصادات هذه الدول عن الريعية، وهو ما يعطيها المرونة فى التعامل مع الصدمات الخارجية. 

حتى الآن لم تتحول حرب العملات إلى حرب عالمية كبرى، لكن الشرارة الأولى لهذه الحرب سوف تبدأ عندما تقوم واشنطن بتخفيض قيمة الدولار الأمريكى، وبذلك سوف تقوم دول كثيرة بتخفيض قيمة عملاتها فى نفس الوقت، وهذا السيناريو ربما يترتب عليه ما حدث فى ثلاثينيات القرن الماضى، حين دخل العالم فى مرحلة الكساد العظيم والتى استمرت عشر سنوات.