رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علاقة رجال الدين بمجتمعاتهم!

«1»

من أقدم العلاقات الإنسانية وأكثرها تعقيدا هو علاقة رجل الدين بمجتمعه منذ أن بدأ يتكون للإنسان ما يمكن وصفه بالمعتقد الدينى، فقديما استطاعت مجموعة فى كل مجتمع أن تقوم بتنفيذ الطقوس الدينية البدائية نيابة عن المجتمع، ولأن تلك المجتمعات كانت فى تلك الأزمان الغابرة تخاف من تلك القوى التى عبدتها، فقد مثلت لها تلك المجموعة- التى تقوم بالوساطة بينها وبين تلك القوى عن طريق تنفيذ الطقوس الدينية وتقديم القرابين- طوقا للنجاة ومبعثا للأمان. 

وشيئا فشيئا فقد اكتسبت تلك المجموعة حصانة وقداسة خاصة، اكتسبتها من التصاقها أو ادعائها بالتصاقها بتلك القوى، واختفى إلى حد التلاشى أحيانا ذلك الخيط الرفيع الذى يفصل بين القوى المعبودة وبين المجموعة البشرية التى تقوم بالطقوس، وكانت هذه هى البداية المأساوية لتلك الهالة من الحصانة التى سوف يتمتع بها رجال الديانات المختلفة عبر العصور!

أصبحت تلك المجموعة هى النواة لما يسمى طبقة رجال الدين بمسمياتهم المختلفة، حسب كل ديانة وكل تجمع بشرى.. بعد أن بدأ الإنسان فى تكوين حضاراته الأولى وبدت الديانات تحصد جانبا كبيرا من مكتسبات تلك الحضارات، فقد قوى بالتبعية نفوذ وسيطرة طبقة رجال الدين على المجتمعات. 

فقد كانت فى بعض تلك المجتمعات تنافس نفوذ الحكام، وثرواتهم تنافس ثروات بلادهم مجتمعة، وفى مجتمعات أخرى استطاع رجال السياسة ترويض رجال الدين لصالح استقرار الحكم وهى الفترات والمجتمعات التى خطت خطوات كبرى وأنجزت معظم مفردات الحضارة الإنسانية من علوم وفنون تحيا عليها الإنسانية حتى اليوم بعد أن طورتها عبر الأزمنة.

«2»

ما حدث فى الديانات الإبراهيمية، أو ما نطلق عليها الديانات السماوية، لم يكن بعيدا عما سبقها فيما يخص موقع ونفوذ رجال الدين وعلاقاتهم بمجتمعاتهم مع اختلاف المسميات والأحداث والأوصاف. 

 فأحبار اليهود الأوائل أو مَن يُطلق عليهم جيل الآباء هم من كتبوا «التلمود» اليهودى بنسختيه البابلية والأورشليمية، وهو الكتاب الذى يصوغ السلوك اليهودى عبر العصور وحتى الآن! 

وفى الديانة المسيحية وفى القرون الخمسة الأولى كان رجال الكنائس الكبرى «البابوات» هم المحركون لجميع الصراعات- الدموية أحيانا- والانقسامات بين الشعوب المسيحية والتى انتهت بالديانة نفسها إلى الانقسام إلى الطوائف المعاصرة. 

وفى الإسلام حدث نفس الشىء، وبمجرد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وحتى القرن الثالث الهجرى صاغ رجال الدين (الفقهاء والعلماء) إرثهم والذى سيصبح مصدر القوة والنفوذ للخلف حتى اليوم! ولا صحة لما نقوله إنه لا يوجد رجال دين فى الإسلام! فنظريا لا يوجد مسمى بالفعل، لكن واقعيا ومنذ القرون الأولى وجد من مارس هذا النفوذ فى المجتمعات الإسلامية تحت مسمى «علماء» بمختلف تشعباتهم!

 فى هذه الحالات الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) كان هناك عاملٌ مشترك حاسم، وهو أن الشعوب قد بالغت فى تقدير وصياغة دور رجل الدين فى المجتمع، وتعصبت فى كثيرٍ من الأحيان لما يقوله رجل الدين باعتباره الترجمة الأقرب لما تقوله السماء! 

وقاد رجال الديانات المختلفة- وأحيانًا رجال الطوائف المختلفة داخل الديانة الواحدة- معارك دموية كبرى راح ضحيتها الآلاف من الشعوب جميعهم يعتقد تماما أنه على الحق وأن موته ليس إلا عبورا لبوابة الفردوس، رغم أن كثيرا من تلك المواجهات الدموية لم تكن إلا تعصبا لرؤية رجل الدين الأكبر حاخاما كان أو بابا أو فقيها! وكتب التاريخ تزدحم وتضج بالوقائع والدماء!

«3»

فى العصور الحديثة بدأت بعض حركات محاولة التحرر العقلى من سطوة وسيطرة رجال الدين، وبدأت محاولات الفصل الجراحى الدقيق ولأول مرة بين الديانة ذاتها وبين رجالها! 

وبدأ بعض المفكرين فى محاولة قيادة العامة نحو ذلك الفهم الجديد، وهو أن رجل الدين هو بشر قد يكون أحيانا أقل فى قدراته العقلية والثقافية من بعض أفراد المجتمع، وأن مجادلتهم ورفض بعض ما يقولون ليس رفضا للديانة ذاتها، بل فى كثيرٍ من الأحيان هو محاولة للدفاع عن الديانة وتحريرها ممن اختطفوها واستخدموها لممارسة أنواع من السلطة والنفوذ تتراوح بين تكوين ثروات حقيقية ضخمة وبين سلطة السيطرة على العقول وانقياد العامة خلفهم، وهى سلطة لا تقل فى إغرائها عند كثيرين عن سلطة الثروة ذاتها!

«4»

لكن بعض المجتمعات ظلت حتى الآن تتمسك عقليا وروحيا بأدبيات البدايات الأولى حتى وإن ارتدى أفرادها أكثر الملابس عصرية وعملوا بوظائف يتوجب على العاملين بها أن يكونوا قد اكتسبوا نصيبا من العلم، ويمكن التعرف على تلك المجتمعات عبر تجمع بعض السمات العامة:-

 أولى تلك السمات أنها مجتمعات تأنف من بذل أى جهد معرفى حقيقى رغم أن مفردات الحضارة المعاصرة قد قفزت قفزات هائلة فى سبيل تيسير الحصول على تلك المعرفة، لكن أفراد تلك المجتمعات لا يرغبون فى ذلك! 

 السمة الثانية أن أفراد تلك المجتمعات يتسمون بأنانيةٍ كبرى فى فكرتهم عن العالم الآخر ولا يقبلون بأى شركاء لهم فى الفردوس ولا يتخيلون فكرة أن الفردوس يمكنه أن يسع أقواما غيرهم!

 وينافقهم فى ذلك رجال الدين بالإصرار على تلك الفكرة بطريقة جنونية، فتتولد بين الطرفين علاقة تبادلية نفعية.. رجال الدين يعدون الأفراد بأنهم فقط- دون غيرهم- لهم الفردوس، بينما يحصل رجال الدين على تلك الحصانة والقوة التى يستغلونها لردع كل من يحاول أن يخلخل تلك القوة عن طريق المعرفة والعقل!

أما السمة الثالثة فهى أن تلك المجتمعات تصيبها حالة تشنج كبرى تصل أحيانا للهوس والهستيريا بمجرد الاقتراب من أىٍّ من رجال الدين بالنقد أو المجادلة أو الرفض أو محاولة المحاسبة والتقويم، وتعود نفسيا وبشكل لا إرادى وبقوة فكرة الخلط بين الديانة وبين رجالها، فيتخيل الأفراد أن الاقتراب من رجل الدين مهما كان مسماه إنما هو محاولة للاقتراب من الديانة ورفضٌ للقيم الدينية ذاتها. 

هذا التشنج وهذا الاضطراب إنما هو اضطرابٌ نفسى من الخوف من فكرة انهيار المسلمات التى استقرت بها الأنفس ولو كان هذا الاستقرار وهما خالصا، وفى انهيارها اضطراب للروح نفسها حتى وإن لم يدرك ذلك المضطربون! يرفضون مثلا أن يتقبلوا أن أبطالهم الدينيين ليسوا بكل تلك المثالية وأن كثيرا منهم لم يكن إلا محاربا لتحقيق مكاسب خاصة له ولم يكن ذلك الفارس الدينى النبيل!

«5»

التجارب الإنسانية السابقة المتكررة عبر تاريخ هذا العالم تقول إن أى مجتمع لن يمر عبر تلك البوابة الحضارية العظمى أبدا طالما لم يقم بتلك العملية الجراحية الدقيقة.. وهى الفصل التام بين الدين وبين رجل الدين.. الدين فكرة رئيسية يعتنقها جميع الأتباع ولها طقوس وآداب وأحكام عامة، أما تطبيق تلك الآداب والأحكام على تفاصيل كل مجتمع فى كل عصر فهو عملية نسبية، وأما رجل الدين فهو بشرُ يفكر ويصيب ويخطىء ويقدم وجهة نظر نسبية قابلة للقبول أو الرفض، فما يقوله لأتباعه ليس حقيقة مطلقة!

ولن يعبر أى مجتمع تلك البوابة الحضارية إلا بعد أن يتقبل فكرة رفض ما يقوله رجل الدين أحيانا وعدم اعتبار ذلك رفضا للدين ذاته! إن لم يعبر تلك المرحلة فهو لم ينضج بعد وسيظل فى نفس تلك الطبقة من الحضارة الإنسانية يدور فى فلك ومدار سلطة رجال الدين النفسية والعقلية!

ففى كل العصور واجه علماء العلوم الطبيعية مقاومة شرسة وعنيفة وصلت للتعذيب والقتل من جانب رجال الدين وخلفهم قوة المجمتع لمنع هؤلاء العلماء من خوض تجارب علمية أو هدم ما كان يعتبر  مسلمات كونية، ثم بعد عقود أو قرون ثبت صواب ما ذهب إليه هولاء العلماء الذين قُتلوا بسبب ما قدموه من علوم بدونها لم نكن الآن ننعم بكثير من مفردات الحضارة المعاصرة!

ولن يعبر تلك البوابة الحضارية أى مجتمع ما لم يقم بمعرفة ذاته معرفة حقيقية أو معرفة هويته معرفة حقيقية، ولن يتم له ذلك دون قراءة التاريخ الإنسانى وفى القلب منه تاريخ تلك البقعة التى يحيا عليها هذا المجتمع!

وأخيرا، فلن يعبر تلك البوابة الحضارية العظمى أى مجتمع لا يدرك أهم دروس التاريخ.. إن جميع الحروب كانت من أجل السيطرة على بقعة ما من الأرض بخيراتها وشعوبها مهما كانت الراية المرفوعة!