رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حفنة صور وذكريات

أحمد رجب شلتوت
أحمد رجب شلتوت

- ماشفتش عم رجب؟ 

ثلاثون عامًا مضت ولم يمل سامى من توجيه السؤال لكل من يلتقيه من رفاق اللواء ٢٥ مدرع، الصدفة وحدها تتيح له لقاءات عابرة ببعض من بقى منهم، وحده عدلى من امتلك جوابًا، جمع بينهما مؤخرًا مقر عملهما الجديد بعد عقدين من الشتات أعقبا التسريح من الجيش.

_ شفته صدفة من كم سنة، فى الدوادمى.

لم يعقب سامى، نظر له مستغربًا، فأوضح عدلى:

_ الدوادمى بلدة سعودية بالقرب من الرياض، فى وسطها ميدان، بمثابة مفترق طرق، قصدته خلال عودتى من إجازة لأستقل سيارة منه إلى الطائف، يومها انتظرت وصول السيارة، لأكثر من ساعتين قضيتهما متسكعًا فى البلدة، وهناك قبل وصول السيارة بدقائق لمحته، يعمل فى أحد المحلات المطلة على الميدان، تعانقنا وشربت معه الشاى، ثم تعانقنا ثانية قبل أن تتحرك السيارة، ولم أره بعدها.

 

كنت أنتظرهم، فى الوقت المحدد بالضبط، حضروا، فتحت الباب مع أول دقة للجرس، قال الجار الذى أحضرهما:

_ كأنك يا أحمد كنت واقفًا خلف الباب

قال أحدهما وهو يمسح العرق عن صلعته بمنديل ورقى:

_ كأنك عم رجب قبل ثلاثين عامًا.

علت وجه الثانى ابتسامة وهز رأسه مؤمنًا، وقال جارنا:

_ ألم أقل لكما، أحمد صورة من أبيه

أشار لهما: 

_ عمك سامى وعمك عدلى زميلا أبيك فى حرب رمضان.

ودعهما وانصرف رافضًا الدخول، أكد أن مهمته انتهت بإحضار الضيفين، تقدمتهما إلى غرفة أبى، كان جالسًا فى فراشه، تعلو وجهه ابتسامة، رأياه فغاضت ابتسامتاهما، هرعا إليه، احتضناه كل من جانب، ثم انفجروا جميعًا فى بكاء مرير.

خلعا نظارتيهما، ومسحا دموعهما وهما يسمعان حكاية أبى عن جلطة فاجأته يوم عيد الفطر الماضى، بعد صلاة العيد قضم كعكة ثم رشف رشفة شاى واحدة، شعر بعدها أن يده تنوء بحمل الكوب، الذى سقط فاستشعرت ساقه سخونة الشاى الذى بلل جلبابه، بعدها غاب عن الوعى.

قاوم الأصلع نوبة بكاء ثانية:

_ اليد التى أنقذتنى من الموت تعجز عن حمل كوب شاى.

صمت فأكمل صديقه الحكاية وهو يتضاحك محاولًا تبديد الأسى:

_ لما انتهت الغارة تعثرت فى بيادة سامى، الغارة الكثيفة زرعته فى الرمل زرع بصل، شددناه أنا وأبوك حتى أخرجناه من الرمل، عم رجب أفاقه، وحمله على كتفه وكأنه جدى صغير.

عاود سامى احتضان أبى وبكى، ضمه أبى وربت على ظهره:

_ اجمد يا جندى، أنا خلاص عديت الأزمة ويدى تخبط ظهرك بقوة.

غادرتهما لأعود بصينية الطعام، وضعتها فى منتصف الحجرة، حاولا رفعها إلى الفراش ليشاركنا أبى الطعام، وهو حاول أن يثبت لهما أنه استعاد عافيته، أبعد الغطاء عن ساقيه، وزحف مقتربًا من حافة الفراش، جاهد ليقف، هرعا إليه خشية أن يسقط، سنداه كل من ناحية، خطوتان فقط بين السرير والصينية، خطاهما مجرجرًا قدميه، بدا التأثر واضحًا على ملامح الضيفين، سامى قبل كتفه، أجلساه بينهما، وجلست قبالته.

 

ما زال أبى يحتفظ بقوة ذاكرته، اكتشفت أنها تمتلئ بأسماء الشهداء، اختلطت أسماؤهم بكلمات اللواء ٢٥ مدرع والسويس وجبل عتاقة والحصار، هم أيضًا لم ينسوا، ضحكوا كثيرًا وهم يتذكرون زملاء المعسكر ونوادرهم، استطاعوا استعادة الحكايات بتفاصيلها الدقيقة، قد يختلف أحدهم حول اسم القائل أو الفاعل، لكن يتفقون على الحكاية بتفاصيلها، ضحكوا كثيرًا، لم يكن أبى قد ضحك منذ داهمته الجلطة، وجاء زميلاه فاستهلك كل موفور ضحكه، فاستعادت الملامح أساها، أشار إلى صورته بالزى العسكرى معلقة على الجدار:

_ لم يبق من تلك الأيام إلا حفنة صور وذكريات.

يريه عدلى صورًا يخزنها على الموبايل، التقى فى الطائف بالأحول والحلاق، عيسى الأحول طوال فترة تجنيده وهو يلعن حظه الذى أوقعه فى عميان فحصوه ورأوه لائقًا للتجنيد، وبيومى الحلاق يشبه الممثل الكوميدى عبدالمنعم إبراهيم، يقول إنه من أبناء عمومته، لا يزال يقلد ضحكته وطريقته فى التحدث بالفصحى، عام كامل قضياه معًا فى الطائف وهو يحلق لعدلى بالمجان، يشرق عدلى ويسعل حتى تدمع عيناه وهو يحكى عن فضه خناقة بين الأحول والحلاق، حضرها بالصدفة ذات غداء فى مطعم يعمل به الأحول، طلب الحلاق دجاجًا فأحضر الأحول دجاجة وحيدة الورك، طلب الحلاق استبدالها ورفض الأحول ليقينه أن بيومى لن يستطيع التهام الدجاجة كاملة.

يعيد أبى الترحيب بضيفيه، يكرر المثل: مصير الحى يتلاقى، يتذكر لقاء وحيدًا جمعه بموسى الأبيض، أيضًا كان عائدًا من إجازة، ينتظر سيارة تقله إلى وجهته، كان يرتدى العقال والغترة فلم يعرفه أبى، لكن الأبيض عرفه وعانقه هاتفًا باسمه.

يتخلى سامى عن صمته، يمسح نظارته بمنديل وصلعته بآخر:

_ شكلك لم يتغير كثيرًا يا عم رجب، فقط زاد بياض شعرك

يسترسل سامى محصيًا الصدف التى جمعته ببعض رفاق الجبهة، مرات ليست كثيرة آخرها قبل شهور ذهب إلى بنى سويف للمشاركة فى تشييع جثمان والد زميل، هناك رأى الصول عوض عطوة، كان يجر حصانًا مربوطًا إلى عربة كارو محملة بالبطيخ. الحصان العجوز يمشى متثاقلًا، بينما عوض ينادى على البطيخ بصوته المبحوح، تحاضنا وسأل كل منهما الآخر: ماشفتش عم رجب؟ 

يصمت سامى فيكمل عدلى:

_ أحد الزملاء سألنا عمن يكون هذا الرجب الذى لم يره أحد، ذكرنا اسمك كاملًا، فقال: أنا شفته.

لم يحك الجار عن مرض أبى، فقط زارنا فى المساء ليبلغنا برغبتهما فى الزيارة، واليوم أوصلهما، ولما فاجأنا المساء التالى بحلوله انتبه الضيفان إلى أن الوقت سرقهما، فقاما ليعاودا عناق أبى، الذى أصر على استبقائهما، تعللا بحلول المساء وبُعد المسافة، فأصر على مرافقتهما حتى الباب، وظل يلوح لهما حتى اختفيا، وحينما أعدته إلى غرفته توقف أمام صورته القديمة، وفاض الدمع من عينيه.