رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن نثق بما نراه.. كيف غيرت الفوتوغرافيا أفكارنا «تصوير الأرواح أم تصوير الأفكار»

لم يكن تصوير الأرواح بمنأي عن تجارب العلماء، علماء البصريات والفيزياء والمصورين وعلماء النفس، لقد نشأ التصوير الفوتوغرافي نفسه من طريقة غير مسبوقة ودقيقة في ذلك الوقت لالتقاط الواقع، لدرجة أنه عندما بدأ استخدام الوسيلة على نطاق واسع في أوائل القرن 19، اعتقد البعض أن كل صورة تستهلك جزءا صغيرا من أرواحهم.

حاول العلماء إثبات أن صور الأرواح أُنتجت باستخدام أساليب تكنولوجية، مثل التعريض المزدوج بواسطة الألواح الزجاجية المعدة مسبقًا بصور المتوفى، والطباعة المركبة.. ورغم الجهود المتواصلة لوأد مصداقية تصوير الروح واعتباره ممارسات للخداع البصري، لكن هذه الممارسات استمرت لما يقرب من قرنين من الزمان، وفتحت مناقشات حوله من قبل عالم الطبيعة البريطاني ألفريد راسل والاس والكاتب السير آرثر كونان دويل، وعالم النفس الفرنسي تشارلز ريشيت، والفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس، مؤسس المجموعة التي ما زالت موجودة للآن الجمعية الأمريكية للبحوث النفسية.

لن يتوقف العالم عن سحق أحبائنا في رحي الحرب، ولن تُحد رغبة البشر الدائمة لمعرفة ما يأتي بعد الموت، لكن العلم لن يرضخ بسهولة لسيطرة المشاعر على العقل.. تمثل هذه نقطة بحثنا لنرى كيف أثر تطور التصوير الفوتوغرافي على ممارسة التقاط صور الروح.

في عام 1856، كتب العالم السير ديفيد بروستر عن تصوير الروح في كتابه "المجسم: تاريخه ونظريته وبنائه" لغرض التسلية، قد يحملنا المصور لعوالم ما وراء الطبيعة، يمكّنه فنه من إضفاء مظهر روحي لشخص وإظهاره على أنه "طيف".

انتقلت الروحانية من أمريكا إلى إنجلترا على يد الإنجليزي ويليام هوب، الذي كان في ذلك الوقت بالفعل مصورًا روحيًا شهيرا، مثل موملر، تعرض هوب لاتهامات بالاحتيال، وحققت جمعية البحث النفسي معه، بقيادة باحث الخوارق الشهير هاري برايس في عام 1922.،أجرى برايس تحقيقًا كشف أن هوب محتال بسبب تعريضه لوحين زجاجيين في نفس الوقت.. لكن على عكس موملر، استمر هوب في العمل كمصور روح بعد التحقيق، بدعم من العديد من أتباعه المتحمسين.

 

وليام هوب

 

صور الروح لوليام هوب

 

ورغم كافة الادعاءات والمحاكمات العلنية التي طاردت مصوري الروح، لكن مع انتشار الكاميرات ازدهر تصوير الروح بحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان بإمكان أي شخص شراء كاميرا والتقاط صورة، وفُتح الباب أمام بعض الدجالين الذين كانوا حريصين على قيادة الناس والتلاعب بمشاعرهم لكن في الوقت ذاته ثمة صور حيرت المحققين.

 

 

الظهور المزعوم للورد كومبرمير هو مثال على التعريض الطويل لشخص يدخل الإطار لفترة كافية للظهور في الصورة

في هذه الفترة، التقطت واحدة من أشهر صور الروح التي بقيت بلا تفسير في عام 1891، كان سيبل كوربيت يلتقط صورة للمكتبة في كومبرمير، إنجلترا، حينما ظهر في الصورة طيف رجل جالس على كرسي، لا تبدو الصورة كصور الأرواح المعتادة، وأشيع أنها روح اللورد كومبرمير- الذي توفي مؤخرًا في حادث سير وقت التقاط الصورة، واستغرق تعريض الصورة ساعة- مما دفع العديد من المتشككين إلى زعم أن خادمًا قد دخل الغرفة وجلس لفترة وجيزة على الكرسي أثناء التعريض، ومع ذلك، أكد معظم موظفي المنزل أنهم كانوا في جنازة كومبرمير في ذلك الوقت.

صورة الروح لجوستاف جيلي 1924

 

The Brown Lady of Raynham Hall: يُعتقد أن الشكل الشبحي المرئي هنا ناتج عن اهتزاز الكاميرا أثناء التعرض الطويل

 

بحلول الحرب العالمية الأولى، اكتسب التصوير الروحي بعض المؤيدين البارزين في عام 1936، حيرت قضية نورفولك المحققين، صورة السيدة البنية الشهيرة "The Brown Lady" لامرأة تنزل سلم المكتبة، فالأدلة الفوتوغرافية لم يعبث بها..  يقول أحد المحققين: "رأى المساعد السيدة تنزل السلم عندما كانت رأس المصور مخبأة تحت قماش الكاميرا الأسود.. لم يكن لدىّ الحق في عدم تصديقهم فسمعة كليهما محط ثقة وهما ليسا مصوري أرواح".. في عام 1937، زعمت جمعية البحث النفسي أن السبب ببساطة هو اهتزاز الكاميرا خلال تعريض مدته ست ثوان.

في خضم الانتقادات والشكوك حول تصوير الأرواح ظهر علم الفكر (المعروف أيضًا باسم التصوير النفسي) لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر بسبب تأثير تصوير الروح رغم أنهما مختلفان. 

من أوائل الكتب التي ذكرت "التصوير النفسي" كتاب  الفوتوغرافيا الجديدة 1896 من تأليف آرثر برونيل شاتوود، وفيه وصفت تجارب لأشخاص يمكن أن ينتجوا صورا عبر النظر للوح حساس بعد  التركيز على أجسام حيث تتأثر شبكية العين البشرية بشكل كبير، وانتقدت مجلة ناتشر الكتاب بشدة، وكتب الباحث النفسي هيوارد كارينجتون في كتابه "الظواهر النفسية الحديثة" (1919)، أن الصور النفسية احتيالية، ومع ذلك، لم يستطيع التأكيد على زيفها.

يعتبر المشككون من المصورين المحترفين أن الصور النفسية ناتجة عن عيوب في الكاميرا أو الفيلم أو التعريض أو توهج العدسة أو انعكاسات الفلاش أو التفاعلات الكيميائية.

عاد مصطلح "علم الفكر" في بداية القرن العشرين 1910 بواسطة TomokichiFukurai.. الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة طوكيو عندما نشر نتائج تجاربه عن التخاطر مع فتاة تدعي Nagao في عام 1913، نشر كتابها للاستبصار والفكر.. تعرض الكتاب لانتقادات لعدم وجود نهج علمي، واستقال فوكوراي في النهاية في عام 1913 وانتحرت الفتاة. 

 

التصوير النفسي -TomokichiFukurai

في الستينيات من القرن الماضي، اكتشف مشغل مصعد في شيكاغو، يدعى تيد سيريوس، موهبته الواضحة في إنتاج صور فوتوغرافية من خلال التفكير. 

أدرك الدكتور أيزنبود أنه باستخدام كاميرات بولارويد، لا يمكنه فقط الحصول على النتائج بسرعة، بل يمكنه أيضًا التأكد من عدم إمكانية العبث بالتعريضات الناتجة، كان يعتقد أن هذا من شأنه أن يفضح بالتأكيد مزاعم سيريوس الغريبة على أنها خدعة.

عندما وجّه الدكتور أيزنبود الكاميرا إلى تيد سيريوس ودفع غالق الكاميرا، لم يكن ما ظهر صورة للوجه، بل الخطوط والأشكال الواضحة للبرج، حدد البرج لاحقًا على أنه برج شيكاغو المائي المميز.

أجرى الباحث JuleEisenbud تجاربه مع تيد، حيث أنتج حوالي 1000 صورة Polaroids، احتوى العديد منها على مبانٍ ضبابية وسيارات وتفاصيل يومية يفترض أن تيد استحضرها تحت رقابة شديدة.. كتب أيزنبود كتابًا عن هذه التجارب بعنوان "عالم تيد سيريوس: دراسات ثيوغرافية" لعقل استثنائي (1967)، وحفظت صور تيد في  المجموعات الخاصة، جامعة ميريلاند، والعديد منها متاح للمشاهدة عبر الإنترنت.. كان عمل تيد سيريوس جزءًا من العديد من المعارض في جميع أنحاء العالم، أبرزها "الوسط المثالي: التصوير الفوتوغرافي والغامض" في متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك عام 2005.

4hnuwdx9

 

 

Dead Man Posting – The Thoughtography of Ted Serios

 

إن بحثنا عن صور الروح هو سلوك يكشف عن ذاتنا وعن قوة معتقداتنا ورغبتنا في كشف المجهول، المجهول الذي له جذور شخصية ونفسية، عندما نبحث عن إجابة لما لم نحط به خبرا، عندما نميل للتمسك بالخيال لمواجهة الواقع، نمضي في رحلة لتطوير وإضفاء معنى لما ليس له معنى، ونواصل البحث عن أدلة لتعزيز الأشياء التي نرغب في أن تكون حقيقية.

إذن، هل ما زلنا نميل إلى قبول أن الوسيط "الواقعي" يمكن أن ينتج صورًا لعالم روحي؟ هل ما زلنا نثق بما نراه؟، ربما هذا هو التساؤل الذي علينا مواجهته.