رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملابس المصريات وساحة الأزبكية.. كيف وصف «جوتييه» رحلته إلى مصر؟

تيوفيل جوتييه
تيوفيل جوتييه

عبر تاريخها الطويل وحضارتها العريقة جذبت مصر وسحرها قلوب المستشرقين والرحالة فجاءوا إليها يلبون نداء مجهول وغامض لزيارة تلك الأماكن السحرية المقدسة، ومن بين هؤلاء الرحالة الكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه، المولود في مدينة تارب جنوب فرنسا.

كان "جوتييه" أحد أعمدة التيار البرناسي في الشعر الفرنسي، وأحد أعمدة الرومانتيكية الفرنسية والداعين إلى تجاوزها في آن معا، وكان شاعرا وروائيا وقاصا وكاتبا مسرحيا وناقدا، ومن أهم مجموعاته الشعرية "ملهاة الموت"، و"مزججات وأحجار منقوشة"، أنعش الأدب السردي ومده بأبعاد غرائبية خيالية جديدة من خلال قصص الفانتازيا، كما لمع بقصص رحلته إلى مصر والتي ترجمها من الفرنسية محمد بنعبود، وصدرت عن "مشروع كلمة" للترجمة بدولة الإمارات العربية المتحدة.

ــ ملابس المصريات أواسط القرن الـ19 بعيون الشاعر الفرنسي
من شرفة غرفته بفندق "شبرد" القديم قبل أن يحترق، كان تيوفيل جوتييه يتلصص على المصريات في الشارع أمامه وملابسهن والتي قدم لها وصفا تفصيليا في كتابه "رحلة إلى مصر" قائلا: "تمر النساء الفلاحات مرتديات هذا اللباس الأزرق الطويل الذي لا يلبسن غيره، والمتحرك حول أجسادهن الرشيقة وكأنه رداء من العصور القديمة لهذا اللباس فتحات على الصدر، ما يسمح بلمح أجزاء من الجسد تتمتع، عندما تكون الفلاحة شابة أو لم تلد أطفالا بعد، بصفاء شبيه بصفاء المنحوتات، فنتذكر العنق البارز لأبي الهول".

يلفت "جوتييه" إلى أن ملابس المصريات لا تختلف عن الأوروبيات موضحا: "لا تنزعج الحشمة الإسلامية من الجسد بأكثر من انزعاج الأوروبية، فهي تقتصر على الوجه ولا تبدي كثيرا من القلق على مثل هذه الخيانات الصغيرة التي تقترفها الأردية عندما تنفرج عن أجزاء من الجسد، وهي خيانات تصلحها من وقت لآخر، ويقتصر ما تبقى من ملابسهن على خمار من اللون نفسه يغطي الرأس وتسقط أهدابه على الكتفين كي تخفي الفلاحات الملامح، أثناء مرور رجل غير مسلم فضولي، يسحبن شقا من خمورهن على أسفل وجههن ويمسكن به بأسنانهن".

وأوضح "جوتييه" أن "المسيحيات لا يتحجبن البتة فغدا بإمكاني أن أتفرس كما يحلو لي بهذه الأوجه ذات العيون الواسعة وعظام الوجنات البارزة قليلا والخدود المستديرة والأفواه المنفرجة ببسمة يصعب إدراك مغزاها، وذقونهن المزينة ببعض الوشوم المزرقة، المجسدة لرسوم النمط المصري البدائي، فتغدو هذه الرسوم مشابهة تماما لرؤوس النساء المنحوتة التي تغلق أفواه جرار حفظ أحشاء موتي المصريين القدامي، لا شيء أكثر أناقة من مفاصل أعناقهن".

كما يصف جوتييه في كتابه المعنون "رحلة إلى مصر" والصادر عن مشروع كلمة للترجمة بالإمارات العربية المتحدة٬ ونقله للعربية محمد بنعبود٬ ساحة الأزبكية قد تحولت لحديقة غنية بالأشجار الباسقة٬ بعدما كان النيل يحيلها إلي بركة زمن الفيضانات. صارت حديقة الأزبكية مقسمة بممرات متساوية محفوفة بسياج خفيف من قصب أو جريد نخل٬ استعدادا لبيعها لتقام عليها منازل قريبة في شكلها مما يوجد في متنره مونسو بباريس٬ مع الاحتفاظ بجزء من الأرض للتنزه٬ لكن لا وجود حتي الآن لحسن الحظ٬ لأي مظهر من مظاهر البناء ــ زار جوتييه مصر عام 1870 ــ ودون أن يكون لي أي موقف مناوئ لهذه المضاربة العقارية٬ فإنه من المستحب من أجل بهجة القاهرة٬ أن تظل الأمور علي ما هي عليه.

تتخلل ساحة الأزبكية أشجار سامقة٬ أوراقها ذات الخضرة تبدو من كثافتها وكأنها سوداء٬ وبينها ينتصب صفان من المنازل نلمح بينها مساكن عربية قديمة٬ محدثة بهذا القدر أو ذاك٬ قائمة بين مساكن جديدة٬ يزينها عدد كبير من المشربيات المندثرة٬ لكن لا يزال موجودا منها ما يكفي للحفاظ علي الطابع الشرقي للمنازل المحيطة بساحة الأزبكية. وعلي أن أقر بأنني رأيت علي أحد المنازل أمامي٬ وكان مصبوغا بالأزرق الكثيف هذه العبارة:"مقر القبو الشعبي القديم".  

يتابع "جوتييه": وأعلى الأشجار من الجهة الأخرى للساحة٬ وراء الخط الذي ترسمه الأسطح٬ نلمح بضع منارات مرتفعة يتناوب علي قواعدها اللونان الأبيض والأحمر٬ علي سماء زرقتها خفيفة لا تشبه اللون النيلي٬ الذي رسمه "ماريلا" لكننا في شهر أكتوبر ومن المفترض أن تتلون سماء مصر في الصيف بصبغات مشحونة بأكبر قدر من الأزرق الكوبالتي وأزرق البحر.

وعلي اليمين كانت تبدو انحدارات المقطم٬ ذات اللون الرمادي المورد٬ بجنباتها الهزيلة والمجردة من أي مظهر نباتي. كانت أشجار الحديقة ــالأزبكية ــ تحجب عنا البنايات الحديثة٬ من مثل مسارح السيرك والأوبرا الإيطالية والكوميديا الفرنسية٬ فانتفي بذلك أي شيئ من شأنه أن يعكر علي حلمي.