رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جلال برجس: الصدق يجعل الكاتب يتماهى مع شخوصه (حوار)

جريدة الدستور

كتب الكثير من الروايات وحاز العديد من الجوائز، وحازت روايته الأخيرة «دفاتر الوراق» الكثير من الاهتمام، هو جلال برجس الروائي الأردني والذي ناقش في روايته الكثير من المسكوت عنه من خلال عالم الوراق واستطاع توظيف قراءاته بشكل متقن نظرا لما تحفل به الرواية من أحاديث عن الكتب والشخوص، «الدستور» التقت «برجس» وكان هذا الحوار..

- لجأت لخروج الصوت -الآخر الموازي- من بطن إبراهيم الوراق (بطل الرواية)، حيث «تنتفخ بطنه كامرأة حامل» ثم يظهر الصوت. هل قصدت ذلك كتقنية سردية؟

بالطبع هى تقنية تلقي الضوء على المجاهيل النفسية للشخصية فتتيح للقارئ أن يرى بعدًا جديدًا لرؤية بطل الرواية حيال ما يعاني، الأمر الذي يجعل الفكرة قابلة للتفكير الحر وتقليبها وبالتالي الإيمان بها أو رفضها. في الرواية الحديثة أنت لا يمكن أن تفرض رأيك كمؤلف على قارئ بات أكثر وعيًا خاصة إن آمنا أن القراءة الواعية لا تقل شأنًا عن الكتابة الجادة. إن هذه الرواية مبنية على ثيمة الصراع بكل أشكاله فهنا لابد من ترسيخ الأطراف كاملة وبالتالي إطلاقها بوعي ديمقراطي روائي، فالكائن الغرائبي الذي تخلق على نحو مفاجئ في بطن إبراهيم شخصية بحد ذاتها تغاير شخصية إبراهيم وتتفق معها في الآن ذاته ومع هذا هناك مقاصد درامية من وراءها تضاف إلى المقاصد السردية والنفسية والفكرية.

- الوراق(بطل الرواية) تقمص شخصيات لأبطال روايات عالمية وعربية. هل هذا من متطلبات الشخصية لأن عمله فرض عليه القراءة؟ أم أن ذلك استعراضًا - وتوظيفا في نفس الوقت- لقراءات برجس ؟
من الطبيعي أن يستثمر الروائي قراءاته وخبرته ورؤيته للكون من دون أن يفرضها على الشخصيات بالطبع ويضعها في قالب ليس لها، لكن ذلك التوظيف في دفاتر الوراق جاء نتيجة لمتطلبات الشخصية فهو قارئ جاد، ويتبنى رؤية استثنائية حيال العالم وهذه الرؤية بحد ذاتها هي التي جعلته يتقمص شخصيات روائية تماثل وجهة نظره ومعاناته وطرائق فهمه لما حوله، لهذا تقمص دور (كوازيمودو) في رواية أحدب نوتردام رغم الاختلافات الثقافية والزمنية تقمصها بنجاح بل أنه كان في لحظة وعي متطابق جعلت الحدود الزمنية بين الأزمات الإنسانية تتلاشى.

صحيح أن الصوت الذي يصدر عن بطن الشخصية يندرج في سياق الحالات المرضية لكنه من جهة أخرى حالة من الوعي أو لنقول حالة من انفجار الوعي، الأمر الذي يتعالق بمسألة تقمصه للشخصيات فمن جهة هو حالة مرضية ومن أخرى استثمار معرفي لإعادة انتاج الرؤية.

- ترصد روايتك " دفاتر الوراق" فترة زمنية تمتد لأكثر من 70 عاما ( 1947: 2019)، وتدور عبر ما تسرده الدفاتر في البادية( القرية) والمدينة، وبعد صخب الأزمات الاجتماعية والأخلاقية تنتهي الرواية بمشهد هدم وتدمير، ما الذي قصده جلال برجس؟

إنها صرخة بوجه شغف الإنسان بتدمير مكانه من دون أن يعي معتقدًا أنه يسعى لأجل مكانه الفرداني الخاص، ما عاد الإنسان العربي للأسف الشديد يتعاطى مع حياته ضمن سياق الجماعة التي بنيت عليها الإنسانية حينما تشكلت البدائية الأولى بل بات ينزع إلى الفردية التي رسختها مراحل إشكالية ورؤى ما بعد الحداثة. الدمار الذي سيلمسه القارئ في الرواية أردته أن يكون ضوءًا أحمر ينبه ثم يستشرف القادم؛ فثمة بيت يهدم على صعيد المعمار الخارجي، وثمة بيت يهدم على صعيد المعمار الداخلي النفسي إحالتان لثيمة الوطن؛ العالم في منطقة شائكة الآن إما يخرج منها نحو فضاء جديد وإما ينزلق لمزيد من التعقيدات التي ستفضي إلى غيرها.

هل ما يحدث في عمان هو نتيجة التغيرات التي طرأت طوال هذه الفترة الطويلة على الوطن العربي، وبالتبعية بلدك الأردن؟ وما السبيل للخروج من هذا المأزق الأخلاقي والإنساني؟

بالطبع هو نتيجة حتمية لكل التبدلات العالمية، وما يحدث في عمان يحدث في مختلف أنحاء الوطن العربي، بل حتى يحدث في مختلف أنحاء العالم مع الأخذ بعين الإعتبار شكل المعاناة ونسبها؛ فقد أصبح الإنسان محكومًا بنسق زمني متسارع بشكل مرعب، نسق يمضي بشكل إهليجي تؤدي فيه نظرية الطرد المركزي إلى إقصاء الإنسانية، هنا بالذات تكمن الأزمة وتفاقمها الشديد الأمر الذي يطرح السؤال ذاته والذي طرح في دفاتر الوراق بأكثر من مستوى: متى يمكن للإنسان أن يتحول إلى وحش؟ وهل يمكن للمحمول المعرفي أمام الفقر وغياب العدالة أن تصنع فرقًا، أم أنه سيبدو مجرد ديكورات ثقافية ستتهاوى أمام العاصفة؟ العالم يتقدم بمسار (الحرية، قيمة الإنسان وحقوقه، المعرفة) لكنه يتراجع بمسار آخر مواز له بالشكل ومغاير له بالإتجاه ففي شق من العالم يمكن لك أن تجد الدنيا تقوم ولا تقعد لأجل قطة عالقة بشرفة في إحدى الإبراج السكنية بينما في شق آخر نجد أناسًا يموتون إما جراء الجوع، أو جراء تغول الإنسان على الإنسان في سياق النزاعات العرقية أو الدينية، فهل من حل أمام مرض الإنسانية غير لقاح الإنسانية ذاتها؟

- تكشف الرواية ما يدور خلف أسوار الملاجئ الخاصة بالفتيات، وما يحدث لهن خارجها عندما يغادرنها من تحرش وما يسكن قلوبهن من خوف دائم وطمأنينة في بيت مهجور وخرب... هل هذا هو واقع النساء في مجتمعنا؟ أم هو تحذير من المستقبل الذي ينتظرهن؟

إن هذا جزء من الواقع الذي يحدث الآن، وربما يتفاقم في المستقبل إن بقيت زاوية النظر إلى المرأة على هذا النحو الذي ما يزال يستمد جذوره من مناطق نفسية وثقافية أثثتها مراحل زمنية عتيقة فالبيت المهجور في الرواية إحالة إلى أكثر من مفهوم أهمها مفهوم الوطن بشقيه المادي والمعنوي، الداخلي والخارجي فمعاناة أبناء (البيت المهجور) تصبح أكثر تعقيدًا خاصة في وجود البيت في عمق الصخب، ومعاناة فتيات الملاجئ تغدو أيضًا في ظل عالم ينادي كل يوم بحقوق المرأة وضرورة تصعيد كل ما من شأنه النهوض بواقعها. إن تأملنا حالنا فإننا ما نزال وراء حدود التنمية على مختلف الصعد، والتعايش، ومحاولة تفعيل مفاهيم الحرية وهنا يبرز السؤال: متى نخرج من إطار المحاولة إلى الفعل؟

تحفل الرواية بعمق الشخصيات واستطعت استبطان شخوصها، إلى أي مدى يؤثر التوحد مع الرواية في نفسية الكتاب؟

إحدى أهم رهاناتي وانشغالاتي هو كتابة نص صادق، والصدق في الكتابة خاصة الرواية لا يمكن أن يأتي بمعزل عن التماهي الكلي بالشخصيات المبتكرة، تماهي يصل إلى درجة تقمص الشخصية والتصرف على غرارها الأمر الذي يعبث بالمزاج النفسي للكاتب ويبقى يرافقه حتى بعد الانتهاء من الكتابة لأنها –أي الشخصيات- تعلق بنا، وتتشبث بمخيلاتنا رغم أنها أفرغت على الورق وكأنها بمستويين واحد فيما كتب وآخر هو ذاك الذي يبقى في دواخلنا، كأنه الصوت والصدى.