رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسرة صالح مرسي: بكى بعد قراءته قصة «رأفت الهجان»

صالح مرسي
صالح مرسي


المبدع الحقيقى هو الذى يقدم ثقافة تعيش فى كل العصور وتصلح لكل الأزمان، ويكون عماد قلمه مبنيًا على رسم التجارب الإنسانية فى لوحة فنية صالحة للقراءة والمشاهدة فى المزارع والمصانع، والكنائس والمساجد، وداخل خنادق الجنود، وأيضًا على النواصى وساحات النوادى. الأديب والروائى صالح مرسى واحدٌ من أصحاب الأقلام الذين نجحوا فى تحقيق تلك المعادلة الصعبة على مستوى الكتابة، وأيضًا داخل عالمى السينما والدراما. فى ذكرى رحيله، التى حلت يوم ٢٤ أغسطس الجارى، كان من المفترض أن يدور شريط الحوار حول مسيرته مع زوجته السيدة وجيهة فاضل، لكن الصدفة البحتة قادت ابنه «أحمد» لحضور هذا الحديث، الذى تنقله «الدستور» فى السطور التالية.


زوجته: ترك البحرية للتفرغ للإبداع.. ويوسف إدريس وصف قصته الأولى بـ«الراقية»
تعرفت وجيهة فاضل على زوجها خلال تصوير مسلسل «صيام صيام»، للمخرج القدير محمد فاضل، حيث كانت تعمل مساعدة مخرج فى العمل، وكان «مرسى» هو كاتب القصة والسيناريو، واعتاد حضور تصوير المشاهد والحلقات، وفى إحدى المرات التقيا وتعارفا، وشعر كل منهما بالانجذاب إلى الآخر.
تتذكر السيدة وجيهة هذه المقابلة الأولى: «كانت مقابلة فكرية بامتياز، اكتشفنا خلالها تشابه آرائنا وتماثل رؤانا فى مواضيع شتى، ثم تعمقت العلاقة أكثر وتوطدت، لتنصهر وتظهر لاحقًا فى صورة صداقة شديدة، حتى تسرب شعور إلينا بأنه لا يمكن لأحدنا الاستغناء عن الآخر».
بعدها بفترة وجيزة، فاتحته فى أمر الارتباط، وفى البداية توجس فى القبول وأبدى رفضه، وكان منبع اعتراضه هو الفارق العمرى بينهما، الذى يقترب من الـ٢٠ عامًا، لكنه فى نهاية المطاف وافق، فتزوجا وأصبح فى حياتها «حكاية العمر كله».
ووصفت زوجها بأنه «تركيبة نادرة الحدوث وظاهرة عصية على التكرار، صاغ نفسه بنفسه، ويعد نتاجًا لملحمة كبرى من العمل والاجتهاد»، مشيرة إلى أنها وجدته فى كل أوقاته وتباين أحواله مخلصًا لقلمه وفنه، ولذلك عاش وخُلدت أعماله.
«فى عمله كان يتميز بالدقة والبحث، لا يشعر أبدًا بالملل ولا يستسلم للإحباط، وهذا بسبب تأثير القراءة على شخصيته، فهو بطبعه قارئ قديم شغوف بالمعرفة، وتشرب حب القراءة من زوج خالته، الذى كان يملك مكتبة ضخمة فتح أبوابها على مصراعيها أمامه، فأدمن رائحة الحبر وملمس الورق، لذلك كان يشعر بلذة غربية حين يقضى نهاره وشطرًا من ليله متنقلًا وهائمًا بين دفتى كتاب يقلب صفحاته».
من هنا يظهر سبب تميز «صالح» وسر لمعان تجربته فى الكتابة وعلى مستوى السينما والدراما، وتلك نقطة إلى جانب نقاط أخرى، منها تنوع التجارب الحياتية التى مر بها وعاشها.
فنشأته بالقرب من مدينة طنطا بأجوائها الريفية الساحرة، وبعدها الانتقال إلى الإسكندرية والعمل كضابط بحرى، منحه خبرة وأكسب شخصيته ثقلًا وخيالًا، وذلك بحكم اختلاطه بثقافات متنوعة ونماذج متباينة من البشر، فالحياة بين السماء والأرض والماء تبقى تجربة ثرية التفاصيل مبهرة النتائج، وفق الزوجة.
واعتبرت أن ما سبق يمثل أوراقًا مهمة من شجرة صاحب «زقاق السيد البلطى»، لكن الورقة الأثقل والأهم فى ميزان موهبته تتمثل فى دراسته الفلسفة، التى كان حبه الكبير لها دافعًا له نحو الالتحاق بكلية الآداب، ثم الحصول على الليسانس فى هذا التخصص، على الرغم من أنه فى ذات التوقيت كان يعمل فى وظيفته الأولى كضابط بحرى.
وفى لحظة تخرجه فى كلية الآداب داعبته أحلام فترة الصبا مرة أخرى، وتجدد شوقه بأمله القديم، ألا وهو العمل ككاتب يرصد من وحى قلمه ما كان وسيكون، لذلك لم يتردد فى خلع البذلة البحرية تمهيدًا لارتداء معطف الإبداع الأدبى والفنى والثقافى.
من باب القصة القصيرة بدأت أولى لمحات نبوغه، وحدث أن كتب إحدى القصص أو على الأرجح مجموعة قصصية، وأرسلها إلى الأديب يوسف إدريس، وهو الكاتب المعروف عنه غروره الشديد بأدبه وقلمه، أو مثلما يُقال بالعامية «ما بيعجبوش العجب».
بمجرد أن قرأ «إدريس» ما كتبه «صالح»، تبادل معه الخطابات مثنيًا على أسلوبه، وواصفًا إياه بـ«الراقى والرائق» ومبشرًا بأنه نواة لمشروع كاتب كبير، ثم طلب منه الحضور لمقابلته فى زيارته المقبلة للإسكندرية، وبالفعل التقيا واصطحبه «مرسى» فى رحلة بحرية، ليتحولا من بعدها إلى صديقين مقربين.
هنا لقطة بارزة تتضح فى مشروع صالح مرسى، تدل على أن اللحظة الأولى التى بدأ فيها قلمه يعزف أولى قصصه كانت هى شهادة الميلاد الحقيقى لاسم فرض نفسه على ساحة الثقافة والفكر مبكرًا، وأن أدب الجاسوسية لم يكن صاحب الفضل فى شهرته، فأعمال مثل روايتيه «الخوف» و«السجين» من الكتابات الفارقة فى حياته، ودائمًا ما كان يُبدى اعتزازه بهما، لذلك تصنيفه كأديب للجاسوسية يمثل قصورًا شديدًا فى تقييم تجربته.
وحسب المتواتر من سيرة صالح مرسى، فإنه لم يخطط مطلقًا لاختراق عالم الكتابة من بوابة أدب الجاسوسية، لكن القدر وحده هو الذى ساقه إلى تلك المنطقة الملتهبة، عندما تم تكليفه بكتابة مسلسل إذاعى تكون إحدى قصص الجاسوسية بطلًا للحبكة والحكاية.
آنذاك لم تكن تجمعه بذلك النوع من الفن أدنى علاقة، فبدأ يضرب الأرض يمينًا ويسارًا ليجمع كل المؤلفات التى تتناول ذلك اللون، وتقريبًا لم يدع عملًا غربيًا أو عربيًا إلا وقرأه، ليصل بعد ذلك إلى «سدرة المنتهى» من المعرفة المتاحة، ويبدأ بعدها فى الانطلاق.
سألنا زوجته: كيف استطاع لاحقًا أن ينسج بقلمه كل تلك الروائع التى قرأها وشاهدها الجمهور؟.. فأجابت:
جرت العادة أن يُلقى بعض الجهات إلى «صالح» بملف ما، يحتوى على الخطوط العامة لإحدى العمليات المخابراتية، تفاصيلها، مثلًا تقول: قام شخص ما بعملية وتمكن من الوصول لمعلومة معينة أو الحصول على جهاز ما، دون أن تزيد أو تنقص عن ذلك، وحتى عندما كان يحاول الاستفسار عن أمر محدد يخدم القصة عادة كان يجد الإجابة بالرفض فى انتظاره.
لكنه على الفور يبدأ فى جمع الخيوط الدرامية، ونسج الخطوط الإنسانية والاجتماعية التى ترصد كل ما يتعلق بتلك الشخصية، قبل أن يضفر المعلومات ويصبها فى قالب درامى، لتخرج بالصورة التى هى عليها.
وأذكر أن جملة الأوراق التى تحصل عليها لكتابة رائعة «رأفت الهجان» لم تزد على ٢٠ صفحة، ومع ذلك بمجرد أن قرأها وجدته يخرج باكيًا من غرفته، ليخاطبنى قائلًا: «إحنا مش رجالة»، وذلك بالقياس إلى الدور البطولى الذى قدمه هذا الرجل لوطنه.
وللعلم فى هذا المسلسل كان من المفترض أن يؤدى دور البطولة الفنان عادل إمام، لولا أن حدث اختلاف فى وجهات النظر بينه و«صالح»، فالأخير كتب السيناريو معتمدًا على طريقة الـ«فلاش باك»، لكن «الزعيم» اعتبرها غير ملائمة وطالب بتغييرها.
فما كان من المؤلف إلا أن استعصم بموقفه وصمم على رأيه، معتبرًا إياها الطريقة المُثلى لبدء الحلقات، ليقرر «إمام» الانسحاب، ومن ثم

ابنه: كتب «الحفار» بتكليف رئاسى ومسيرته لم تجد التكريم المناسب
فى صبيحة أحد الأيام الصيفية، جلس الأديبان الكبيران نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، فى مكانهما الأثير بمقهى «بترو» بمدينة الإسكندرية، فدخل صالح مرسى عليهما وألقى السلام فلم يردا، فكرر المحاولة مرة أخرى فلم يلقِ استجابة أيضًا.
قرر الانصراف فسمع صوت «الحكيم» يناديه قائلًا: «إيه اللى أنت عملته ده يا أستاذ؟»، فعقب باستغراب: «عملت إيه حضرتك؟»، فرد «الحكيم» متسائلًا: «كيف يكون كتابك الأخير عنوانه (مذكرات تحية كاريوكا)»، فأجابه: «لأنها تحية يا توفيق بك!».
فبدأ الاثنان حينها تلقينه بعضًا من حكم الكتابة والأدب، وأهمها ألا يكشف الكاتب عن بضاعته كاملة فى عناوين مؤلفاته، واستشهد «أديب نوبل» بروايته «اللص والكلاب»، التى ترصد قصة محمود أمين سليمان «سفاح القرن العشرين»، عندما تعمد إخفاء اسمه.. فكيف أثر صاحب تلك النصائح فى رحلة صاحب «الصعود إلى الهاوية»؟
هنا جاء دور أحمد صالح مرسى للحديث والإجابة عن ذلك السؤال، وهو شاب فى أواخر الثلاثينات من عمره، نحيف، ملامح وجهه تحمل النسخة الشبابية من والده الراحل، وليس هذا الميراث الوحيد الذى اكتسبه منه فقط، بل إنه أيضًا يتمتع بثقافة واسعة لا تبتعد كثيرًا عن الثقافة التى تميز بها والده.
أجاب الابن: «صالح مرسى تأثر بتوفيق الحكيم على مستوى كتاباته، بينما أثر فيه نجيب محفوظ على المستوى الإنسانى والأدبى والفكرى، فقد كان عاشقًا له ومحبًا لقلمه، وأذكر يوم أن تعرض للطعن بالسكين، وجدت أبى يبكى بحرقة شديدة، فهو كان الألفة بين كل الكتاب وأصحاب الأقلام».
وأضاف أن والده كان بالتوصيف الشعبى الدارج «دودة قراية»، حيث احتفظ بالطبعات الأصلية لرواية «ألف ليلة وليلة»، وكثيرًا ما وجده الابن منكفئًا على قراءتها، وكان كلما وجه أحد الأسئلة إليه، وجده يرد بأن: «الإجابة موجودة فى كتاب كذا»، ثم يذكر اسم الصفحة، فرأسه كان يشبه أرشيف جهاز الحاسب الآلى الذى يحتفظ بالمعلومة ويخزنها، وفق «أحمد».
وكشف عن أن هوايته الأولى كانت زرع النباتات، ولأجل صقل موهبته تلك طالع كل الكتب التى تتناول ذلك التخصص، لدرجة أنه فى بعض الأحيان كان يعمل على تشغيل بعض المقطوعات الموسيقية التى تساعد النبات على النمو، مثلما قرأ فى تلك المؤلفات.
وأشار إلى أنه من مواليد عام ١٩٢٩، وما بين الميلاد والرحيل «عاصر أبى العديد من التحولات السياسية الكبرى، وشاهد الكثير من الوقائع المثيرة، لكنه بقى مؤمنًا بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فقد كان ناصريًا حتى النخاع، وظل محتفظًا بصورته فى درج مكتبه، ورغم حبه الجارف له، لم يُنكر عليه أخطاءه التى وقع فيها، واعتبر ثغرة الديمقراطية فى عهده نقطة قاتلة ألقت بظلالها على إنجازاته الكثيرة».
بينما فى عهدى «مبارك» و«السادات» وقف «مرسى» متأملًا المشهد من بعيد، مفضلًا الصمت والمراقبة دون التدخل بالحذف أو الإضافة، ربما لاقتناعه بأنه أدى دوره خلال مسيرته.
ولذلك يعتقد الابن أن توقيت رحيل والده، فى ١٩٩٦، كان مثاليًا، فقد مات وهو فى أوج تألقه، وفى وقت كانت الأمور تسير بطريقة شبه منضبطة، لأنه «فى اعتقادى لو عاصر سنوات الفوضى والاضطراب التى عشناها خلال السنوات الماضية لكان أصابه القهر والحزن مما يحدث ويجرى».
فى الجزء الأخير من الحوار كان الغضب هو اللغة التى سيطرت على مشاعر أحمد صالح مرسى أثناء حديثه، ومنبع الضيق سببه هذا السؤال: هل لاقت مسيرة صالح مرسى التكريم التى تستحقه، خاصة أن عطاءه الفنى والأدبى كان غير محدود؟
قال الابن مجيبًا فى غضب: «سيرة والدى وأعماله المتنوعة تم اختزالها فى حلقتين من مسلسل (رأفت الهجان)، تتم إذاعتهما كل عام فى المناسبات الوطنية المختلفة، دون حتى الإشارة لدوره».
واستدل على ذلك باستضافة أحد البرامج التليفزيونية الشهيرة، منذ فترة، أبطال مسلسل «رأفت الهجان» لتكريمهم والحديث معهم، وحتى نجوم العمل الراحلين تم الاحتفاء بهم على أكمل وجه وأتم صورة، فى حين أن نصيب والده من الحلقة كان ١٠ ثوان تم الإشارة إليه باعتباره مؤلف العمل لا أكثر من ذلك.
ورأى أن الموهبة والاجتهاد والمواجهة هى الثلاثية التى صعد عليها والده لقمة سلم المجد الأدبى، مستشهدًا على ذلك بأن كل الأعمال التى حاولوا من خلالها استنساخ ومحاكاة تجارب صالح مرسى الإبداعية مثل «دموع فى عيون وقحة» و«الصعود إلى الهاوية» لم تلق نفس النجاح، وفق رأيه.
وذكر أن مسلسل «الحفار» كان بتكليف مباشر له من رئاسة الجمهورية، حيث طُلب منه أن يقدم ملحمة جديدة للدراما تشبه رائعة «رأفت الهجان»، لكنه حين اطلع على الأوراق اكتشف أنه بحاجة إلى بذل مجهود لا يقل عن مجهوده السابق، وهو ما اعتبره أمرًا صعبًا، خاصة أن عمره وقتها كان قد تجاوز ٦٥ عامًا.
ومع ذلك لم يتخلف عن الكتابة حتى يوم رحيله، وبدأ فى كتابة عملين جديدين، الأول هو «نداء النورس»، والثانى «القاهرة ٤٢»، الذى كان يسعى عبر صفحاته لتأريخ كل الوقائع والأحداث التى مرت بها مصر خلال تاريخها.
واختتم الابن: «صالح مرسى عاش حياته والجميع يشهد له بأنه كان على درجة كبيرة من النبل والتواضع، ولمس فيه تلك الصفات كل من اقترب منه أو عمل معه، فهو بطبعه شخص اجتماعى، وبيته كان مفتوحًا للجميع، ويشهد على ذلك عدد بارز من الصحفيين الذين اعتادوا الجلوس برفقته، أمثال عادل حمودة، وإبراهيم عيسى، والراحل محمود صلاح، وكذلك أصدقائه جلال الشرقاوى والراحل سعد أردش، وغيرهم كثيرون».