رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الدستور" داخل جامع عمرو بن العاص: المسلمون يقابلون الله فى ليلة القدر

جريدة الدستور

بصمود يتحدى الزمن تقف أعمدة وجدران جامع عمرو بن العاص شامخة منذ بنائه عام ٢١ هجرية الموافق ٦٤٢ ميلادية، وتتدلى قناديله المضيئة من أسقفه ممتزجة مع وسائل التبريد الحديثة التى تتخذ مكانها فى جنبات المسجد الذى تغطى أرضه سجاجيد طبعت عليها جباه ملايين المصلين لسنوات طويلة.
وعلى مساحة 14 ألف متر، يجذب أقدم مساجد مصر وإفريقيا الأعين والقلوب بمجرد رؤية ساحته الفسيحة وقبته الصفراء المضيئة المحمولة على أعمدة رخامية جميلة الشكل، يتوسط بها «مجمع الأديان» فى منطقة الفسطاط بحى مصر القديمة. وأُسس المسجد فى زمن الصحابى عمرو بن العاص عقب فتح مصر فى محرم من سنة 20 هجرية الموافق 8 نوفمبر 641 ميلادية، فى مدينة الفسطاط التاريخية، التى كانت آنذاك عاصمة إسلامية للبلاد، والأثر الباقى من المدينة.
وعلى عادة المصريين منذ قرون طويلة لجأ كثيرون لـ«المسجد العتيق» و«تاج الجوامع» لقضاء العشر الأواخر من رمضان، حيث الاعتكاف والصلاة والتمتع بالأجواء الروحانية، وقضاء الفرائض والنوافل وذكر الله الذى لا ينقطع ليلًا أو نهارًا.

نساء يجهزن «الفطار».. أطفال يوزعون العصائر.. وربع مليون مصل فى «التراويح»
مع إعلان المؤذن موعد صلاة العصر يتجه المصلون فى المنطقة المحيطة بـ«جامع عمرو» إلى ساحاته لقضاء الفريضة ثم يتجهون بعدها إلى بيوتهم تاركين هؤلاء الذين جاءوا من أجل الإفطار فى ساحات المسجد الكبير صاحب التاريخ العريق.
وفى ساحة النساء تجد الأعين الناطقة بالسعادة والأيدى التى تحوّل سجاد المسجد إلى مائدة مفتوحة تُحضّر عليها الألوان المختلفة من الطعام والشراب التى أُعدت خصيصًا من أجل إفطار الصائمين.
فى الساحة اختلفت المهمات، فمن بين النساء من تنشغل بتقطيع الخضروات، ومنهن من آثرت التفرغ للتدبر والذكر والجلوس جنبًا إلى جنب مع المقرئات لتلاوة آيات الذكر الحكيم بصوت مسموع.
أما الساحات الخارجية للمسجد فتشهد وجودًا مكثفًا للرجال خاصة كبار السن الذين يستلقون على أرض المسجد بأعين شاخصة إلى السماء، فمنهم من يناجى ربه ومنهم من غرق فى نوم عميق ينتظر به غروب الشمس الحارة والإعلان عن موعد الإفطار للصائمين، ليفتح عينيه على نداء «الله أكبر.. الله أكبر»، ويستمتع وقتها بالألوان المختلفة من الطعام.
أما الأطفال فيسيطرون بحركتهم الدائمة وصخبهم أحيانًا على الأجواء، ومنهم من انهمك فى تجهيز العصائر والتمر والمياه المقرر توزيعها مع الأذان، ومنهم من كلف نفسه بإيقاظ النائمين قبل موعد الأذان لضمان منحهم مزيج التمر والماء.
وعقب صلاة المغرب وفور انتهاء الصائمين من فطورهم، يتحول الجميع فى الساحة إلى خلية نحل تهدف للتخلص من آثار تناول وجبة الإفطار وإعادة ساحات المسجد إلى شكلها الطبيعى من أجل استقبال المصلين الذين اقترب موعد عودتهم لأداء صلاتى العشاء والتراويح، فى ظل ازدحام الصفوف خاصة فى العشر الأواخر من الشهر المبارك.
أكثر من ربع مليون مصلٍ جاءوا جميعًا لأداء الفريضة فى ساحات «جامع عمرو»، واصطفوا جميعًا فى صفوف طويلة لأداء صلاتى العشاء والتراويح، فمنهم من يحمل مصحفه أو هاتفه ليتابع تلاوة الإمام لآيات الذكر الحكيم، ومنهم من يصلى مغمض العينين ليستشعر الآيات بأعين دامعة، فيما يحاول الأطفال تقليدهم فى تصرفاتهم أو تندمج أصواتهم خاصة القادمة من ناحية مصلى النساء ليمتزج ضحكهم مع أصوات بكاء آخرين.

معتكفون: أصبحنا عائلة أيامها قرآن وصلاة.. ونرغب فى زيادة عدد الأئمة
عقب الصلاة توجهت «الدستور» للحديث مع بعض المعتكفين، الذين أتوا من محافظات مصر المختلفة للذكر والعبادة ولم يغادروا ساحات المسجد بعد «التراويح»، لتتعرف منهم على كيفية قضاء الأيام الأخيرة من الشهر الكريم.
يقول على عبدالباقى إنه جاء خصيصًا من مدينة طنطا من أجل قضاء الأيام العشرة فى المسجد، ويحكى عن يومه فى المسجد بقوله إنه يبدأ قبل صلاة الظهر بقليل، فوقتها يستيقظ ويقرأ القرآن انتظارًا لصلاة الظهر، ثم يستمر فى القراءة إلى صلاة العصر التى يجلس بعدها للاستماع للخطبة اليومية.
بعد انتهاء الخطبة ينشغل الجميع فى تجهيز وجبات الإفطار الجماعية ثم الإفطار وانتظار صلاتى العشاء و«التراويح»، وبعدها يرتاحون قليلًا حتى موعد صلاة التهجد ثم يؤدون صلاة الفجر ومن بعدها يخلدون للنوم استعدادًا ليوم جديد.
«تعرفت على المعتكفين هنا وأصبحنا عائلة».. كلمات يشرح بها «عبدالباقى» علاقته بالآخرين بعدما اطمأن الجميع لبعضهم البعض إثر الخطوة التى اتخذتها وزارة الأوقاف من أجل تأمينهم، والتى تمثلت فى حصولها على صور بطاقات الهوية لجميع المعتكفين لضمان عدم وجود أى عناصر قد تتلاعب بأفكارهم.
ويؤكد الرجل الستينى «صابر» حرصه الدائم على قضاء العشر الأواخر من رمضان فى ساحة «جامع عمرو» حتى تناله نفحات الرحمة مع زوجته التى اصطحبها لذلك خصيصا من قريتهما بمحافظة دمياط.
وذكر أنه يؤدى مع زوجته الفرائض والسنن داخل المسجد، على أن يتوجها بعد ذلك لبيت أحد الأقارب المقيمين فى المنطقة القريبة، بعدما استضافوهما لتسهيل مهمتهما فى آخر أيام شهر الرحمة والمغفرة.
أما الرجل الأربعينى صالح السنى فيروى أنه جاء من مدينة السادات إلى المسجد لقضاء فترة الاعتكاف فى «جامع عمرو»، موضحًا أنها أصبحت عادة سنوية يحرص فيها على قضاء أكبر عدد من الأيام داخل المسجد. يقول: «أترك عائلتى فى الأيام الأخيرة من كل رمضان للاعتكاف، وأطمئن عليهم بالتليفون باستمرار، وأعتبرها أفضل 10 أيام أقضيها طوال العام».
أمنيته الوحيدة فى أفضل أيام العام تمثلت فى رغبته فى وجود عدد أكبر من الأئمة فى الصلاة حتى يستمتع بأصواتهم كما كان يحدث كل عام قبل تشديدات وزارة الأوقاف التى لم تسمح سوى بوجود إمامين فقط للمسجد.
يوضح: «فى الأعوام السابقة كان هناك تنوع وكنا نسمع عددًا من الأصوات الجميلة لكن ذلك لا يحدث هذا العام، وهناك سلبية أخرى تتمثل فى تعامل عمال المسجد مع الأطفال بقسوة، حيث إنهم يحاولون التخلص منهم بداعى إزعاج المصلين».
ويقول حلمى محمد، أحد المعتكفين، إن روحانيات «عمرو بن العاص» تجذب المصريين من كل أنحاء البلاد وليس سكان منطقة المسجد فقط.
ويضيف: «الأعداد فى صلاة الفجر فى عمرو بن العاص أضعاف صلاة التراويح، ويأتى إليها من كل مكان ومن مختلف الطبقات ونجوم المجتمع».
أما ليلة القدر، ليلة 27 من شهر رمضان، فهى «أمر آخر من الروحانيات والإقبال»، موضحًا: «من الصباح تتوافد الأعداد لحضور التراويح والدعاء، وتمتد أعداد المصلين لشوارع مجاورة للمسجد التاريخى». ويعرف يوم 26 رمضان فى مسجد عمرو بن العاص بأنه اليوم الأكبر عددًا فى صلاة التراويح فى مصر، إذ تصل أحيانًا الأعداد إلى نصف مليون مصلٍ.
وجرت العادة على تحرى «ليلة القدر»، ليلة 27 رمضان، لكونها إحدى ليالى الوتر فى العشر الأواخر من الشهر الفضيل، التى ورد فيها حديث عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، بأنها الأقرب لأن تكون إحدى لياليها.

«الأوقاف» تُعيّن إمامين «وسطيين» لإمامة المصلين وإلقاء خطبتى العصر والتراويح
على سبيل التأمين وضعت وزارة الأوقاف هذا العام عددًا من الضوابط والشروط، من أجل ضبط الأمور داخل المساجد التى كانت تشهد خلال السنوات الماضية سيطرة الجماعات الدينية المتشددة على الإمامة والخطابة.
وحددت الوزارة اسم الشيخ إبراهيم عبدالمنعم ليكون الإمام الأساسى فى «جامع عمرو»، ويقود المصلين فى جميع الصلوات خاصة صلاتى «التراويح» و«التهجد»، مع السماح له بإلقاء خطبة بعد العصر والخطبة القصيرة بين ركعات «التراويح»، كما حددت اسم الشيخ محمود عتلم، إمام وخطيب المسجد، ليصلى بالناس فى بعض أيام الأسبوع بالتبادل مع الشيخ «إبراهيم». وبررت اختيار الشيخين لإمامة الصلاة فى «جامع عمرو» بأنهما من أصحاب الفكر الوسطى، ورغم ذلك فقد شهد المسجد خلال الأيام الماضية مخالفة قرار الوزارة بعدما سمح الإمامان المكلفان للدكتور محمد عيد كريم بإلقاء درس بعد صلاة العصر دون تصريح.
وردًا على المخالفة اتخذت الوزارة إجراءات قوية تمثلت فى إحالة إمامى «جامع عمرو» للتحقيق، كما قررت تشكيل لجنة برئاسة الشيخ أحمد عبدالمنعم، مدير عام التفتيش بالوزارة، للإشراف على جميع أنشطة المسجد الدعوية والاجتماعية حتى نهاية شهر رمضان المبارك وخطبة عيد الفطر، على أن يُعاد تشكيل مجلس إدارة المسجد بعدها.
واستقبل القرار بردود فعل متباينة من المصلين ورواد المسجد، بعدما رأى بعضهم أن فرض السيطرة على المسجد من وزارة الأوقاف يعد شيئًا إيجابيًا لأنه يبعد الأفكار المتشددة عن المسجد الذى يشهد ازدحامًا كبيرًا فى هذه الفترة، فيما رأى آخرون أن القرار سيتسبب فى غياب التنوع فى الأفكار والأصوات وقد يؤدى لحالة من الملل بين المصلين.