رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صبري موسى: فن القصة نشأ بسبب الصحافة

صبري موسى
صبري موسى

أجرى صبري موسى حوارًا تحدث فيه عن أعماله الادبية وقصصه القصيرة وكثير من الأمور التي تؤرق الوسط الثقافي المصري على مر العصور.

ولم يفت موسى الحديث عن تجربته في الصحافة، ما جاء في الحوار الذي أجراه الصحفي والشاعر فتحي عامر حديث موسى عن رواياته ونيقولا وهومو وشخصياته، وقال موسى:

بحكم طبيعتي..لا أميل إلى الثرثرة

فى الوقت الذى كتبت فيه القصة القصيرة فى أعوام ١٩٥٠، ٥٢ كان التيار القصصى السائد يتمثل فى رومانسية يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وواقعية محمود البدوى وأمين يوسف غراب، وكان هناك محمود كامل المحامى بأسلوبه المعروف وكانت هذه التيارات جميعا قد بدأت تحاول التمرد على التيار الرومانسى الذى بدأت به القصة القصيرة فى أوائل الأربعينيات، وخلط هذا التمرد الرومانسية بالواقعية، حتى قامت ثورة يوليو، وهى تحمل فكرة العدل الاجتماعى وإنصاف الطبقات المطحونة، وبدأ تيار جديد من الواقعية الاشتراكية يسود القصص المنتج فى تلك الأيام. وكنت ألاحظ أن القصص القصيرة أو تعبير القصة القصيرة لم يكن متحققا، فأحيانا تطول القصة وتمتلئ بالأحداث وتخرج فى كثير من الأحيان عن وحدة اللحظة ووحدة الشخصية، وتكاد تقترب من الرواية، ولاحظت أيضا فيما أكتب الميل إلى التركيز والتحديد والارتباط بلحظة زمنية مختارة وموقف نفسى محدد تواجهه الشخصية الإنسانية.
لعل هذا قد حدث بحكم طبيعتى التى لا تميل إلى الثرثرة، وطريقتى الذهنية فى مواجهة الحياة والتى تميل إلى التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وكثيرا ما كنت أرى فى هذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة عوالم حافلة بالعناصر الدرامية.

أنتجت أكثر من مائة قصة

أما عن الحكايات؟ كان للعمل الصحفى تأثيره الكبير فى توافر العناصر القصصية بحكم تنوع البيئات والأمكنة التى كنت أتحرك فيها، ففى فترة من الفترات بدأت فى العام الأول من الستينيات كنت كثير السفر، بل إننى أيضا فى كثير من الأحيان كنت أسافر دونما سبب سوى فكرة الانتقال والرؤية أى السفر نفسه: مثلا كثيرا ما كنت أتخير عشوائيا بلدا من البلاد المصرية الموجودة فى دليل السكك الحديدية! بلدة أو قرية أو مركزا من المراكز التى يمر بها القطار، فأقضى بها يوما أو يومين حسب إمكانات تلك البلدة، وأذهب إلى الأسواق، وأحتك بالناس، وأستمع إلى حوارات المقاهى، وأتأمل نماذجها البشرية. وغالبا ما كنت أعود من تلك الرحلة بقصة أو بعديد من القصص. تلك كانت فترة الاختبار والتجريب وقد أنتجت أكثر من مائة قصة اخترت نصفها تقريبا، وأصدرتها فى كتاب عنوانه «حكايات صبرى موسى».
واخترت هذا العنوان بسبب الأسلوب أو الأساليب التى تعددت وتنوعت فى سرد تلك القصص. فبعضها كتب بطريقة المسرح، وبعضها كتب بطريقة السيناريو السينمائى، وبعضها كتب بطريقة النادرة العربية، وبعضها كتب بطريقة الراوى الشعبى، ولكنها كانت تتميز جميعا بالعنوان الصحفى الطويل المثير مثل: الخباز وزوجته التى تخرج كل يوم أو طويل عريض على الفاضى أو الأفندى ضحك على الحصان وهكذا.
وكانت تتميز أيضا بالسرد البسيط المركز الذى يلخص ويومئ ويوحى ويشرك القارئ فى استكمال الكثير مما هو غائب عن الكتابة، وكانت تتميز أيضا بتدفق الشخصيات والوقائع كموج زاخر فى بحر الحياة المصرية العارم، وقد حاولت أن أقدمها فقلت إنها حكايات دنيوية مزدحمة بالحوادث والمفاجآت، حكاية للضحك، حكاية للبكاء، ونسبتها إلى نفسى باسم حكايات صبرى موسى لأنها كانت تجربة فى الكتابة غير مسبوقة بنموذج يقاس عليه.

اختلف النقاد في الحكايات

تجنبت أن أسمي الحكايات قصصًا حتى أجنب النقاد الغرق فى إثبات أنها ليست من النوع السائد القصص القصيرة. أو أنها خرجت عن التقاليد المتبعة فى السرد القصصى أو أنها، أو أنها.. وتركت لهم الفرصة للنظر فى هذا الشكل كما هو، ومحاولة تصنيفه.. وقد نجحت تلك الخطة فعلا فى إثمار عدد من التحليلات والدراسات التى كتبها كتاب أو نقاد متمرسون، مثل الأديب يوسف الشارونى الذى نسبها إلى النادرة العربية، وأعتبرها تحديثا لذلك الفن الأدبى، ومثل الدكتور صبرى حافظ الذى اعتبرها اكتشافا لجذور القصص العربى، الذى كانت تفتقده القصص القصيرة العربية التى استمدت أشكالها الشائعة من القصص الغربى ومثل الدكتور مجدى توفيق، الذى اعتبرها كتابة ضد الكتابة، التى يتبادلها المثقفون ولا يستطيع العامة التى تدور حولهم القصص أن يشاركوا بقراءتها، فهى تستمد أسلوبها فى السرد والحكى والتنوير من نفس الأساليب، وبنفس الطريقة التى يتداولها العامة من الناس، فهى كتابه بهم ولهم. ومثل دراسة الأستاذ كمال النجمى التى تؤكد أنها قصص قصيرة مائة فى المائة بل إنها من أحسن القصص القصيرة التى تنشر الآن.

فن القصة نشأ بسبب الصحافة

فن القصص القصيرة نشأ أولا بسبب الصحافة ورغم ذلك فقد ظل فنا ثقافيا، ولكنه فى أساليبه وطريقة سرده ظل متعاليا ومنفصلا عن مستويات القراء، ومع تطور الصحافة واتساع انتشارها بدأت تتخلى عن أساليبها اللغوية التى اكتسبتها من بداياتها بالشعر والقصة والمقالات الأدبية، لقد أصبحت خبرية وأصبحت مباشرة فى التقاطها للوقائع والحوادث ونقلها إلى الناس، واستطاعت أن تخلق لنفسها تلك الأساليب الحديثة السريعة، التى تحقق سرعة توصيل الرسالة. لقد استطاعت تلك الأساليب التى تعتمد على السرعة والتركيز المشوق أن تؤثر فى الأدباء الذين يكتبون القصص الأسبوعى للصحافة. ونجح بعضهم فى أن يمزج تلك الأساليب بالأدب فاحتفظ بالفن اللغوى، وتخلص من الجزالة والإطناب والثرثرة اللغوية التى لا طائل من ورائها.
المشهد الروائى في العالم العربي
المشهد يثير التفاؤل، فهناك فى مصر أجيال روائية تتوالد بغزارة وتبدع تحفا فى الرواية الحديثة، وأنا أقرأ لهم بمتعة شديدة فى المسابقات التى ادعى للتحكيم فيها سواء فى هيئة قصور الثقافة أو فى مسابقات المجلس الأعلى للثقافة، وعذرا لأن الأسماء تستعصى على ذاكرتى العجوز الآن. أما المشهد الروائى فى العام العربى فهو مذهل حقا، وأكاد أقول إنه يتقدم كثيرا على ما يقدمه الغرب.. المشكلة أن الغرب يملك آلة دعائية هائلة تمثل ثلاثة أرباع الإبداع الأدبى هناك. فالناشر فى الغرب ينفق على الدعاية عشرات الأضعاف عما يعطيه للكاتب، بينما ناشرنا العربى لا يتعامل مع هذا الجانب أبدا، ويترك أمر الدعاية للكاتب نفسه، والكاتب مسكين فهو لا يتقاضى أجرا لما يكتبه.

كانت دهشتي الكبرى..حينما رأيت الصحراء الحقیقیة

عشت طفولتى فى صحراء صغيرة.. هذه الصحراء الصغيرة كانت تضم حقولا حافلة بالأشجار والزرع، وتضم فرعا رئيسيا من النيل، وتضم مساحة هائلة كبحيرة، ويحدها من جانب: البحر المالح، هى جزء من الدلتا، أو هى طريق الدلتا الشمالى الشرقى، وكل ما احتوته من زرع ومياه عذبة أو مالحة منتزعة من تلك الصحراء. لقد عشت فى وسط مائى، ولكن الرمل الأصفر الممتد بلا نهاية كان يحيط بى ليذكرنى بأننى رغم هذا كله فى صحراء، ولعلك تلاحظ أن هذه الصحراء الصغيرة تحيط بغالبية البلاد المصرية جميعا حتى فى داخل الدلتا.. ولهذ كانت دهشتى الكبرى وكان انفعالى حينما رأيت الصحراء الحقيقية: الأصل: بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وصخورها ورمالها، وأيضا بنوع الحياة الشاقة المحفوفة بالمخاطر التى يمارسها نوع مختلف من البشر. وكانت هذه الصحراء هى وجبل الدرهيب.