رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المذكرات السياسية لـ«ملك العود» «2-2».. فريد الأطرش في البلاط الملكي

فريد الأطرش
فريد الأطرش

لم يكن فريد الأطرش، فى مصر عندما ودعها جمال عبدالناصر إلى الأبد فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، فقد اضطرته مضاعفات مرض «النقرس» إلى السفر لإجراء فحوصات وتحاليل طبية فى الخارج، وفور عودته كان أول ما فعله هو زيارة ضريح عبدالناصر. يومها لم يتمالك نفسه وانخرط فى نوبة بكاء حقيقية، وكانت دموعه صادقة وليس «لزوم» التصوير أمام الكاميرات، بل لتوديع الزعيم الذي عرفه وصادقه وآمن به وغنى له.
لم يكتف فريد بالدموع، وإنما قرر أن يرثي عبدالناصر بأغنية يعبر فيها عن حزنه، أغنية يعرف أنها ربما لن تذاع سوى مرة واحدة، وستوضع بعدها فى «غياهب الجب»، لكنه قبل راضيًا وسهر مع عوده يلحن تلك الكلمات الشجية: «حبيبنا يا ناصر يا أعز الحبايب.. بطل وأنت حاضر بطل وأنت غايب.. حبيبنا يا ناصر يا أغلى الرجال.. يا فاتح طريق مجدنا يا جمال.. ناديت ع العرب وقلت أمة واحدة.. وقفنا معاك كلنا يد واحدة.. وبكرة دموعنا هتبقى ابتسامة.. تنور طريقنا طريق الكرامة». وصدقت توقعاته، فاختفت الأغنية ولم تذع بعدها، فقد جاء السادات وبدأ عصرًا جديدًا.


السادات غنى لـ«جيهان» أغنيته «يا ريتنى طير».. و«جيرة الرئيس» منعت إقامة متحف الفنان
كان السادات يعرف أن فريد الأطرش «ناصري» الهوى، وأن عبدالناصر متربع فى قلبه، وأنه أول من أدخل اسم «جمال» إلى الأغنية الوطنية، ففى فيلمه «ودعت حبك» غنى مع شادية: «إحنا لها إحنا لها.. نحمى العروبة وأهلها.. قالها جمال حامى البلاد.. إحنا لها إحنا لها»، وفى أوبريت «المارد العربى» غنى: «يا مرحبًا بيك يا جمال». ويعرف أيضًا أن عبدالناصر منحه «قلادة النيل» فى «عيد العلم» عام ١٩٦٢، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى فى مارس ١٩٧٠، ولم ينس أن عبدالناصر اصطحبه معه (السادات)، ليفتتح بنفسه فيلم «عهد الهوى» نيابة عن بطله «فريد» فى سابقة لم يعرفها تاريخ السينما قبلها ولا بعدها.
كان يعرف كل ذلك وأكثر، لكن الثابت أن محبة السادات لـ«فريد» وتقديره الشخصى له لم يكن يقل عن عبدالناصر، بل لم يكن السادات يستنكف من الاعتراف بأنه طالما غنى لخطيبته الصغيرة جيهان السادات: «يا ريتنى طير لأطير حواليك»، أغنية فريد التى كان يرددها العشاق فى سنوات الأربعينيات.
لكن فريد لم يهنأ بتقدير الرئيس الجديد، فقد بدأ عصر السادات مع غروب شمس فريد الأطرش، فى ظل معاناته فى سنوات عمره الأربع الأخيرة من أزمات صحية اضطرته للسفر كثيرًا فى رحلات علاج، ليداوى قلبه العليل.
وامتد سوء الحظ ليتزامن رحيل فريد فى ٢٦ ديسمبر ١٩٧٤ مع وفاة المشير أحمد إسماعيل، جنرال النصر وقائد الجيش المصرى فى حرب أكتوبر، لذا كان رحيله بعد أشهر من العبور العظيم فاجعة صدمت المصريين، واختار فريد الرحيل فى هذا الظرف الحزين ومصر تودع «مشير النصر»، كما امتد إلى ما بعد الرحيل، بعد أن تسبب الرئيس السادات دون قصد فى حرمان فريد من إقامة متحف يحمل اسمه، وهذه قصة تحتاج إلى تفصيل.
عندما مات فريد، قرر شقيقه الأكبر فؤاد الأطرش أن يحوّل شقته المطلة على النيل إلى متحف مفتوح لجمهوره، فقد عاش فيها فريد أجمل سنوات حياته، وبين جدرانها ذكرياته ومقتنياته، والعمارة كلها تحمل اسمه، فهو الذى بناها وتملكها إلى أن اضطرته خسائره الفادحة فى إنتاج فيلمى «أنت حبيبى»، و«ودعت حبك» فى منتصف الخمسينيات لأن يبيعها بهدف تسديد ديونه للبنوك.
اشتراها آنذاك صديقه المليونير السعودى «عبدالرحمن سرور الصبان»، واشترط فريد أن يحتفظ بالشقة التى يسكنها مقابل إيجار شهرى قدره ١٠٠ جنيه، ولما أراد فؤاد تحويلها لمتحف اعترض المالك والسكان، فلا يصح إقامة متحف مفتوح للجمهور فى قلب عمارة سكنية، واستجاب فؤاد لكنه لم يتراجع عن فكرة المتحف.
اتجه تفكيره إلى أن تكون عوامة فريد، التى تقف فى مرساها أمام العمارة هى مقر المتحف، وكانت أشهر عوامة فى مصر، بعدما ظهرت فى عدد من أفلام فريد، وصوّر فيها مشاهد شهيرة، كمشهده مع صباح فى فيلم «إزاى أنساك» وأغنيته «قدام عنيا وبعيد عليا» فى «قصة حبى». وكان فريد قد اشترى العوامة من «أغاخان» فى أوائل الخمسينيات بمبلغ خرافى «١٥ ألف جنيه»، واشتهرت باسم «الدهبية»، إذ كان اللون الذهبى يغلب على ديكوراتها وأثاثها.
نعود لحكايتنا.. بدأ فؤاد فى نقل مقتنيات فريد إلى العوامة، وجاء بنجارين وصنايعية لتجهيزها كمتحف، وإضافة وسائل تأمين حتى لا تتعرض للسرقة، خاصة أن كثيرًا من نياشين فريد مصنوعة من الذهب، وطلب من محمود عارف، مصور فريد، أن يجهز مجموعة من أشهر صوره لتزين جدران المتحف.
وفى عز التجهيز لافتتاح المتحف كانت هناك مفاجأة غير سارة، حكاها لى الفنان عادل السيد مؤسس جمعية «محبى فريد الأطرش»، وأحد الذين شاركوا فى تجهيز المتحف.
يقول «السيد»: «هناك أسباب أمنية حالت دون إقامة متحف فى العوامة، فقد كان المكان ملاصقًا لبيت الرئيس السادات، وحدث أن تحركت العوامة لإجراء أعمال الصيانة الدورية لها فى ورش الصيانة، ففوجئنا بإقامة قوات الحراسة الخاصة بالرئيس معسكرًا أمنيًا ثابتًا فى مكان المرسى».
ويضيف «وقتها أطلعنى فؤاد الأطرش على مستندات تثبت أن فريد اشترى ١٥٠ مترًا أمام عمارته لتكون مرسى للعوامة، فطلبت منه أن يتقدم بشكوى رسمية لاستعادة مكان العوامة واستكمال مشروع المتحف، لكنه آثر السلامة وترك لهم المكان، وحينها بدأت الاتهامات تطارد فؤاد بالتقصير فى إحياء ذكرى شقيقه».
ويتذكر «السيد» أن فؤاد أرسل خطابًا إلى نبيل عصمت يوضح له الموقف ويطلب منه أن يكتب الحقيقة فى بابه الشهير «أبونظارة»، ولا أنسى جملة كتبها فؤاد الأطرش فى رسالته تلك: «لو كان النيل ممتدًا إلى إسرائيل لأرسلت عوامة فريد ليفتتحوا متحفه هناك فربما يكونون أكثر تقديرًا لفريد منا».. وهكذا شاء حظ فريد العاثر وجيرته للرئيس السادات القضاء على حلم إقامة متحف يحمل اسمه.
المدهش أن العوامة اختفت بعد رحيل فؤاد الأطرش سنة ١٩٩٥، فقد رست فترة أمام فندق «شهرزاد» فى العجوزة، ثم جاء قرار وزير الداخلية أحمد رشدى بنقل العوامات النيلية، فنقلوها إلى المعادى، وقيل إنها غرقت فى قاع النيل، ومعها ذكريات فريد ومتحفه.


نميرى منحه الجنسية.. قدم 3 أغنيات لملكة الأردن.. ونجا من الموت فى الانقلاب على ملك المغرب
فى أوراق فريد السياسية ستدهشك حتمًا خريطة علاقاته المتشعبة مع زعماء وملوك العالم العربى فى زمنه، فقد كان صديقًا للجميع من أكثر الأنظمة ثورية إلى أشدها رجعية.
وكان الرئيس السودانى جعفر نميرى هو آخر رئيس عربى ربطته صداقة بـ«فريد»، وقبل رحيله بأشهر قليلة فوجئ فريد بمندوب من الرئيس النميرى يزوره فى غرفته بالمستشفى فى لندن، ويحمل له باقة ورد فخمة باسم الرئيس، ورسالة شفوية يتمنى له فيها الصحة، ويعرض عليه تلبية أى طلبات له.
وأثرت هذه اللفتة كثيرًا فى نفس فريد، فلم يتردد -بعد أن استرد صحته- فى قبول دعوة نميرى للمشاركة فى الاحتفال بذكرى «ثورة مايو»، التى جاءت به إلى الحكم، بل تجهيز أغنية خاصة بالمناسبة.
وأرسل له نميرى طائرة خاصة تنقله إلى الخرطوم، واحتفاءً بـ«فريد» أصدر نميرى مرسومًا بمنحه الجنسية السودانية، لتكون رابع جنسية عربية يحملها بعد المصرية واللبنانية والسورية.
لكن أكثر ما أسعد فريد فى رحلته للسودان، أكثر من الجنسية نفسها، عندما كان يتجول فى شوارع الخرطوم واكتشف أن محلات عديدة اختارت أغنياته أسماء لها، وكاد يقفز من الفرحة وهو يقرأ على «يافطات» المحال أسماء: «حبيب العمر وأول همسة والربيع».. تلك الزيارة كانت فى شهر أكتوبر ١٩٧٤، حيث توفى فريد بعدها بشهرين.
وكان الملك حسين عاهل الأردن من كبار عشاق وأصدقاء فريد، وكانت زوجته الملكة دينا تنافسه فى هذا العشق، وفى حفل زفافهما فى ٣٠ أبريل ١٩٥٥، قررا أن يكون ملك العود هو المطرب الوحيد فى حفل الزفاف الملكى.
وكانت دور السينما فى الأردن حتى وقت قريب تبدأ برنامجها بعرض مقاطع لـ«فريد» وهو يغنى فى زواج ملك وملكة الأردن، وبينها أغنية قدمها فريد خصيصًا لهذه المناسبة من كلمات صالح جودت، يقول مطلعها: «يا أغلى من أمانينا وأحلى من أغانينا.. يا زينة الدنيا يا دينا»، وغنى أيضًا للعروس ليلتها أغنيته الشهيرة: «جميل جمال»، وغنى «أنا وانت لوحدنا» بناء على طلب جلالة الملكة الوالدة «زين».
وأهدى الملك حسين لـ«فريد» عودًا نادرًا من الصدف، وهو العود المميز الذى لفت الأنظار عندما ظهر به فريد الأطرش وهو يعزف عليه فى فيلم «لحن الخلود»، وكان واحدًا من بين ٣ أعواد يعتز بها فريد، ولحن عليها أجمل ألحانه ومات وهى فى حوزته.
كان من المفترض أن يحظى «ملك العود» بتقدير مماثل فى بلاط ملك آخر معروف بحبه لأهل الموسيقى والطرب، ويفتح قصوره لهم ويشاركهم بعزفه الماهر أحيانًا، وهو عاهل المغرب الملك الحسن الثانى، إلا أن علاقة فريد به لم ترتق إلى صداقة مماثلة لما جمعه بـ«الملك حسين». وربما يعود ذلك إلى سبب موضوعى، هو أن المغرب كان «محمية غنائية» لـ«عبدالحليم حافظ»، الذى كان الأقرب لقلب الملك وذوقه، والمدلل فى بلاطه، وبالتالى لم يكن فريد «الغريم» مرحبًا به فى «مملكة العندليب».
ولما منحه «العندليب» الضوء الأخضر وتلقى فريد دعوة من الديوان الملكى المغربى للمشاركة فى «عيد الجلوس»، أهم الأعياد المغربية، وظن أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من «غزو» المغرب، كان الحظ السيئ له بالمرصاد. ففى العام الذى دُعى فيه فريد إلى المغرب، وحمل معه أغنية خاصة صنعها على عوده من أجل الملك، وكان موقنًا أنها ستعجبه وستفتح له الأبواب المغلقة، جاءت الرياح بما لا تشتهى نفسه. فى المغرب أجرى فريد «بروفات» على أغنيته بمصاحبة فرقة أحمد فؤاد حسن، استعدادًا لتقديمها أمام الملك فى الحفل الكبير الذى يقام فى الليلة التالية، وفى صباحها «١٠ يوليو ١٩٧١» تلقى دعوة للغداء فى وليمة أقامها الملك لكبار ضيوفه فى قصر «الصُخيرات» على أطراف العاصمة الرباط.
وبمجرد أن تناول فريد غداءه تسلل عائدًا إلى الفندق ليأخذ قسطًا من النوم يجعله منتعشًا فى الحفل، وبعد دقائق من مغادرته «الصُخيرات» كانت الدبابات تحاصر القصر، وبدأت ساعة الصفر للانقلاب المسلح على الملك الحسن الثانى، وتحول القصر إلى ساحة قتال بين الحرس الملكى وقوات الانقلاب التى قادها الجنرال «محمد المدبوح»، وسقط فيها مئات القتلى، بينهم عشرات من ضيوف «وليمة الغداء».
نجا فريد من موت محقق فى المغرب، صحيح أن الانقلاب فشل واستعاد الملك زمام الأمور، لكن فريد كان قد قرر أن يغادر المغرب مهما كانت الأمور، وفى الصباح كان فى مطار الرباط يضع نفسه على الطائرة المتجهة إلى روما، ومنها إلى بيروت، ليفاجأ بحشد من الصحفيين والمراسلين فى انتظاره يسألونه عن وقائع الانقلاب فى المغرب، فقد كان فريد أول ضيف يغادر المغرب بعد الانقلاب الذى هز العالم.


عائلة الصباح أهدته شقة فى الإسكندرية.. وورثته يقتلونه فى قبره
فى الكويت، كان لـ«فريد» شعبية طاغية لدى أسرة «الصباح» الحاكمة، التى أهدته شقة فاخرة فى حى «رشدى» بالإسكندرية فى الشارع الذى يحمل الآن اسم الشاعرة الكويتية المرموقة «سعاد الصبّاح». وعندما حاول فيصل الأطرش بيعها قبل سنوات، اعترضت أسرة الصبّاح ومنعت البيع، وكانت الرسالة التى وصلت إلى فيصل الأطرش: «هذه الشقة كانت هدية لعمك ومسجلة باسمه ولا يجوز التصرف فيها وينبغى أن تظل باسم فريد الأطرش». وبقيت الشقة باسم فريد، وهى مغلقة الآن على حالها، وتضم بعض مقتنياته، وهى الشقة نفسها التى صوّر بها مشاهد من فيلمه «حكاية العمر كله»، إلا أن فيصل الأطرش تمكن من بيع شقة عمه فى العمارة التى تحمل اسمه فى ٧٢ شارع النيل على كورنيش الجيزة، ولا أحد يعرف مصير مقتنيات عمه التى كانت تملؤها، وحافظ عليها والده فؤاد الأطرش طيلة ٢١ عامًا بعد رحيل فريد. ولا أحد كذلك يعرف مصير باقى المقتنيات التى احتفظ بها فريد فى بيته بلبنان، البيت الذى صوّر فيه مشاهد شهيرة من أفلامه: «الحب الكبير» و«زمان يا حب»، إلى جانب فيلمه الأخير: «نغم فى حياتى». كان فريد الأطرش سيئ الحظ فى الحياة على الرغم من الشهرة التى نالها والمجد الذى حققه والأموال التى كسبها، بدأ مشواره فى الحياة طفلًا مطاردًا مشردًا هاربًا مع أمه من بطش الفرنسيين لاجئًا إلى مصر، وأنهاها عليل القلب بلا زوجة ولا ولد. ثم اكتمل الحظ السيئ مع ورثة لا يعرفون قدره ولا يصونون ذكره، فقد باع وريثه فيصل الأطرش شقته وأضاع مقتنياته وراح يتنعم بما يحصل عليه من حقوق الأداء العلنى لعمه فى جمعية المؤلفين والملحنين، وهى مبالغ تستحق، ورغم ذلك تهرب من المساهمة فى نحت تمثال لفريد فى دار الأوبرا المصرية، وتمر ذكرى عمه ميلادًا ورحيلًا دون حس ولا خبر. وعندما سعت إليه شركات الإنتاج للحصول على موافقته ودعمه لصناعة مسلسل يليق باسم فريد الأطرش، طلب مبلغًا خرافيًا، فتوقف المشروع وهرب منه الجميع، ولم يبق إلا أن نقرأ الفاتحة على روح الموسيقار العظيم، الذى جاء إلى الدنيا ليمنحنا السعادة ويحرم نفسه منها.