رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القوات المسلحة.. بين القتال والسياسة!


ليس معنى هذا أنى أسلم ببعد القوات المسلحة عن السياسة، فالحرب هى امتداد للسياسة، ولذا فإن المعاهد العسكرية هى أقرب المعاهد إلى السياسة بعد معاهد السياسة، ويجب أن نفرق بين دراية الفرد بمصلحة الوطن ووطنيته، وبين اشتغاله بالسياسة

يتزامن يوم 9 مارس حدثان مهمان متناقضان، ولكنهما ليسا منفصلين: يوم 9 مارس يوم الشهيد وذكرى استشهاد رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية الفريق أول عبد المنعم رياض، فى اشتباك مع العدو، والوقت المحدد للنطق بالحكم فى قضية ستاد بورسعيد. وفى نفس الوقت نجد أنفسنا فى مواجهة أحداث جارية فى بورسعيد لا تتناسب مع تاريخ المدينة الباسلة، مع دعوات لاستدعاء القوات المسلحة لإدارة شئون البلاد!

أشاهد على الشاشات ما يحدث فى مدينة بورسعيد الحبيبة ويجعلنى أتحسر على ما يحدث فى بلدنا، ويثير فى نفسى ذكريات عن مدينة بورسعيد، فقد كنت فى منتصف عام 1956 قائدا لموقع به سرية من أفراد من بورسعيد ضمن لواء شرق الدلتا للحرس الوطنى الذى كان يحتل دفاعات فى مدينة غزة، وبعدها بشهور قليلة وفى أكتوبر 1956 كانت مدينة بورسعيد تصد هجوم العدوان الثلاثى على مصر وأصبحت مدينة بورسعيد حديثا لجميع العالم، وأصبحت مصدراً لفخر المصريين جميعا، وأذكر أن فى ذلك الوقت تولى قيادة المقاومة فى بورسعيد بأمر من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر البكباشى «اللواء بعد ذلك» عبد الفتاح أبو الفضل، والصاغ «المرحوم السفير» سعد عفرة، واليوزباشى «الوزير بعد ذلك وعضو المجلس القومى لحقوق الإنسان» محمد فايق، لكن هذا الفريق قام بمهمته بالتعاون الوثيق مع شعب بورسعيد. ثم شاءت الأقدار أن أصبح فى بداية عام 1972، مسئولاً عن الدفاع عن مدينة بورسعيد وكنا متعاونين دائماً مع من تبقى بمدينة بورسعيد بعد قرار تهجير مدن القناة. هكذا ظلت مدينة بورسعيد ذات أهمية خاصة لى ولغيرى، وهو ما يجعلنى الآن فى ألم شديد، ويدفعنى للسؤال: هل كنا نقاتل ونضحى لكى نصل إلى ما وصلنا إليه؟! وهل كنا على حق؟!

ما يحدث فى بورسعيد مأساة من عدة نواح، فليس معقولاً أن تتعرض مديرية أمن بورسعيد ومبنى المحافظة للتدمير والإحراق! وليس معقولا أن نتعامل مع أحكام القضاء بهذه الصورة، فالخسائر فى بورسعيد هى خسائر مصرية، سواء كانت فى الأفراد من أفراد الشعب، أو من أفراد الأمن، أو من أفراد القوات المسلحة، هؤلاء الأفراد كانوا عدة مصر لتدافع عنها بل ولبنائها، وهذا الدم كان يفترض أن يشكل احتياطى مصر للدفاع عنها، هل من يقومون بالتدمير والإحراق فى بورسعيد هم أبناء أو أحفاد المقاومين الذين قاوموا الاحتلال البريطانى الفرنسى عام 1956؟ وهل هم أبناء من تعاونوا معنا للدفاع عن بورسعيد أعوام 1973 و1973؟ هذا أمر غير قابل للتصديق.

وليس مقبولاً تصور أن صدور حكم من محكمة على مجموعة من الأفراد مهما كانت هذه الأحكام ومهما كان تصورنا للذين تصدر ضدهم، ومهما كان تصورنا عن الأدلة التى تصدر الأحكام بموجبها، ففى النهاية الأحكام تصدر من محكمة مشكلة من عدة قضاة، ولديها من الأوراق والأدلة ما لا يتوافر لأحد غيرهم، ثم إن حكمهم رغم ذلك ليس نهائيا، وقابل للطعن، وأن ما قد يكون قد فات المحكمة عند اتخاذ قرارها يمكن أن يستدعى كما يمكن إعادة تنظيم الدفاع لتغطية أوجه النقص فى المرحلة السابقة. وفى النهاية فإن الخضوع للقانون حتى وإن شابه أخطاء أفضل كثيرا من أن ننصب أنفسنا قضاة ومنفذين للأحكام.

فى ظل هذه الظروف طالب كثيرون القوات المسلحة بتولى إدارة شئون البلاد كبديل لسلطة رئيس الجمهورية، كما ذهب البعض إلى مكاتب الشهر العقارى والتوثيق ليوقعوا توكيلا للفريق أول عبد الفتاح السيسسى ـ وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة ـ ليتولى إدارة شئون البلاد، وكثرت أسئلة الإخوة الصحفيين، حول دور القوات المسلحة وحول جدوى التوكيلات التى يصدرها ويوثقها البعض، وقد ذكرنى ذلك بأننى ربما كنت قد أثرت شيئا من هذا القبيل حينما عقدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ندوة حول الدستور قبل إصداره وأثناء اجتماعات اللجنة التأسيسية، وكان حول تصورى لما يخص القوات المسلحة فى الدستور، وكنت قد أشرت إلى أن أحداً لا يمس قضية سبق أن تكررت فى التاريخ المصرى مما يحتاج إلى تنظيمها، وهى دور القوات المسلحة فى حال اختلاف قيادة القوات المسلحة المصرية مع رأس الدولة، وهى حالة حدثت بين الخديو توفيق وأحمد عرابى، وبين قيادة ثورة يوليو والملك فاروق، ثم بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر فى سوريا وفى عام 1967، وبين الرئيس أنور السادات وكل من الفريق أول محمد فوزى، والفريق أول محمد أحمد صادق، ثم جاءت أحداث يناير 1977 حينما طالب المشير محمد عبد الغنى الجمسى أولاً بأمر مكتوب لتدخل القوات المسلحة واشترط إلغاء القرارات التى تسببت فى الانتفاضة، وأخيرا تكررت حينما أمر الرئيس السابق حسنى مبارك بنزول القوات المسلحة لحفظ الأمن، هكذا تصورت أن احتمالات الاختلاف تظل قائمة وهذا يتطلب تنظيمه دستوريا، والحقيقة أنى لم أقدم اقتراحات محددة لمواجهة الاحتمالات، لكن يظل الأمر مطلوباً بإلحاح، ما يحدث الآن يشير إلى ضرورة تنظيم التصرف فى ما هو قائم وما هو ممكن فى تطورات الموقف.

لم أقدم اقتراحات لأننى أعلم مدى حساسية الموضوع، كما أنى لا أريد أن أستبق الأمور، لكن ما صدر من دعوات من بعض القيادات المعارضة، وما قام به البعض من تجهيز توكيلات لوزير الدفاع يجعل الأمر مطروحاً بشدة، وهنا أرى ضرورة وضع أسس فى أذهاننا قبل أن نحدد قواعد وأساليب، حتى لا ننزلق إلى مخاطر، لكنى قبل أن أقولها أؤكد ما سبق أن أوضحته، وهو أننى أرى أن النظام بوضعه الحالى لم يعد قابلا لا للإصلاح ولا للاستمرار، وأن أسلوب الرئيس فى الإدارة يوحى بعدم الصلاحية، وأن هناك حتمية فى التغيير!

أول ما يجب الاتفاق عليه هو أن القوات المسلحة هى قوات الشعب، ويجب أن تظل كذلك، وأنها تنضم إلى الإجماع الشعبى أو شبه الإجماع، ولا يجوز أن تنحاز إلى خمسين بالمائة زائد واحد، لذا فإن تدخلها لا يجب أن يكون إلا لمصلحة الجميع وفى حال الضرورة القصوى حيث إن أفراد القوات المسلحة هم أبناء هذا الشعب، ويجب ألا نعرضهم للانقسام واحتمال الحرب الأهلية حتى لا تصبح البلاد نهبا للمخاطر الخارجية.

ليس معنى هذا أنى أسلم ببعد القوات المسلحة عن السياسة، فالحرب هى امتداد للسياسة، ولذا فإن المعاهد العسكرية هى أقرب المعاهد إلى السياسة بعد معاهد السياسة، ويجب أن نفرق بين دراية الفرد بمصلحة الوطن ووطنيته، وبين اشتغاله بالسياسة بمعنى العمل الحزبى، لذا فإن العلاقة بين القوات المسلحة والقيادة العليا المتمثلة فى رئيس الدولة يجب ألا تكون مجرد الانصياع لقراراتها، ويجب أن تكون هناك وسيلة للمراجعة قبل الانطلاق بأن يكون من حق مجلس الأمن القومى مراجعة القرار بطلب من بعض أعضائه حتى ولو كان ذلك على غير إرادة رئيس الدولة!

■ خبير سياسى واستراتيجى