رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كم مرة سنشعل مصر؟


كان هناك من يحذر من أن العسكريين سيلتصقون بالحكم كما سبق أن التصقوا حسب تعبيراتهم، وبدأت أشعر بأننا ننقسم تدريجيا إلى عسكريين ومدنيين، وإلى مسلمين وأقباط، وثوار وفلول، وأن هناك من يسعى إلى بث الشكوك حول القضاء.

تعيش مصر فترة لم يسبق أن عاشت مثيلتها منذ أن قام الملك «مينا» بتوحيد الوجهين البحرى والقبلى، بينما أغلب قيادات البلد غير مدركة حقيقة الموقف، وهو ما يذكرنى بما سبق أن نشرته فى حديث مع جريدة «الدستور» فى أوائل عام 2011، كما قلته لطلبة جامعة المنوفية وهيئة تحرير مجلتها، وحينئذ حذرت من التحول إلى دولة فاشلة وكان هذا تصورى نتيجة لعدة عوامل رأيتها فى ذلك الوقت، وقد كنت قد تنبأت حينئذ بأن تسيطر جماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسى على الساحة السياسية نتيجة لكونها كانت فى ذلك الوقت أكبر الجماعات التى كانت فى الميادين بخاصة ميدان التحرير، وأكثرها تنظيما وانضباطا، لكنى توقعت أن تقترب مصر من وضع الدولة الفاشلة، والدولة الفاشلة حسب ما أعرفها هى الدولة التى لا تستطيع أن تحقق الحد الأدنى من المستوى المطلوب لحياة مواطنيها.

العامل الثانى الذى توقعت بسببه الوصول إلى وضع الدولة الفاشلة هو الاتجاه لإفساد العلاقة بين الشعب والعناصر المكونة للدولة، وأقول هنا العناصر المكونة للدولة وليس للحكومة، وهنا ربما من الضرورى أن نوضح الفرق بين الحكومة والدولة، فأنا مثلا مقتنع بأن من الحق أن يؤلف الحزب الذى يفوز بالانتخابات الحكومة لدرجة أنه يمكن أن ليس فقط تشكيل الحكومة من أعضاء الحزب، بل إنه يمكنه أن يكون جميع الوزراء من أعضائه، وجميع كبار رجال الحكومة مثل نواب رئيس الوزراء ونواب الوزراء، وربما وكلاء الوزارة البرلمانيين، كما قد يعين بعض السفراء من نفس الحزب، إلا أن هذا يختلف عن مؤسسات الدولة وهى القضاء والصحافة والشرطة والقوات المسلحة، بخاصة الجمعية التأسيسية. فى ذلك الوقت كانت أعمدة النظام السياسى لمصر قد سقطت، كان مجلس الشعب الممثل للعمود التشريعى للحكومة قد سقط وجرى حله، وكانت الوزارة أى الحكومة قد سقطت، وكانت الشرطة قد انهارت، وأصبحت الصحافة على كف عفريت، حيث تكفل «الثوار» بشل القيادات الصحفية، وأصبح القضاء فى وضع حرج بعد سقوط السلطة التنفيذية ممثلة فى الشرطة، وبقيت القوات المسلحة العمود الوحيد الباقى للدولة.

فى ذلك الوقت كانت هناك علامات ومؤشرات أن هناك من يسعى إلى الدس بين الشعب وقواته المسلحة، لكنى حينئذ كنت أستشعر أن الظروف مهيأة لأولئك الذين يدسون بين الشعب وقواته المسلحة كى ينجحوا فى مساعيهم، لم يكن هناك بعد من يهتف بسقوط حكم العسكر، ولم يكن هناك من يتجرأ على المشير القائد العام للقوات المسلحة، لكن كان هناك من يحذر من أن العسكريين سيلتصقون بالحكم كما سبق أن التصقوا حسب تعبيراتهم، وبدأت أشعر بأننا ننقسم تدريجيا إلى عسكريين ومدنيين، وإلى مسلمين وأقباط، وثوار وفلول، وأن هناك من يسعى إلى بث الشكوك حول القضاء.

الآن نستمع إلى نغمات سائدة، أغلبها يركز على ناحية معينة ويتصورون أن ما يركزون عليه يحل الوضع، والغالب يتحدث عن الإخوان وجبهة الإنقاذ، وهو أمر وارد ولكنى لا أعتقد أنه هو الوضع أو الأمر الحاسم، حيث الواقع يقول إن الشارع يقود نفسه فليست هناك قيادة بما فيها الإخوان المسلمين ولا يستطيع قادة التيار الإسلامى ولا قادة جبهة الإنقاذ أن يفرضوا الانضباط على الشارع، ويكفى أن ننظر إلى الشارع: هناك من استغل ظروف «الثورة» فبنى على الأرض الزراعية، وهناك من استغل نفس الظروف وبنى أدوارا أعلى من المرخص بها هذا إذا كان هناك ترخيص أصلا، وهناك من يسير بسيارته فى الاتجاه المضاد، وهناك من قام بتهريب المسجونين، وهناك من يقوم بتلويث مياه النيل، وهكذا. هل هناك علاقة بين ما سبق والإخوان المسلمين وجبهة الإنقاذ؟ وهل الحوار بينهم يمكن أن يؤدى إلى علاج المشاكل.

مظهر آخر يوضح جانبا من المشكلة وأستطيع أن أقول إنه لا يمكن حل الأوضاع القائمة فى مصر دون وضع حد له، بل دون محاسبة على من قاموا به، إضافة لمن لا يزالون يقومون به، ألا وهو قطع طرق المواصلات خاصة الطرق البرية والسكك الحديدية، هل يمكن أن نتصور تصحيح الأوضاع والتقدم دون إيقافها، إن طرق المواصلات هى الشرايين التى تنقل دماء الحياة للاقتصاد المصرى بل ومصادر حياة المصريين، هل يمكن قبول استمرار هذا الوضع، فهو الناجم عن شعور المواطن بعدم الرضا وتصور أنه يمكنه فرض رغباته وإرادته على الحكومة لأن الحكومة تريد أن تبقى على علاقة جيدة بالشعب.

هناك العلاقة بين الشعب والشرطة وعناصر القوات المسلحة التى تساند الشرطة وتدعمها، فما زال من يتصرف على أساس أن الشعب عدو الشرطة، وربما ما زال فى الشرطة من يقتنع بأن هذا الشعب لا ينجح إلا باستخدام القوة ضده وهناك من كان يطالب بذبح القطة، ويكاد لا يتحدث أحد ليقول إن الشرطة هم إخوتنا وأبناؤنا، وأن الخسائر الناجمة عن اصطدامهم هى خسائر مصرية، فالشرطى ضابط وجندى مصرى، وهم مكلفون بحماية المجتمع، وإذا عاديناهم فإننا ننزع عنهم قدراتهم على حمايتنا، ولا أظن أن الجدال القائم بين التيار الإسلامى وجبهة الإنقاذ المتعارف عليها يمكن أن يصحح هذه العلاقة، وبالتالى يمكنه إعادة شعور المواطن بالأمن.

هناك أسلوب التعامل مع الخارجين على القانون وقد امتنعت الشرطة والقوات المسلحة عن استخدام أسلحتهم ضد من ارتكبوا هذه الجرائم حتى لا تكون القوات والشرطة قد استخدمت القوة المفرطة ضد الشعب، وهو أمر أظهر هذه القوى بمظهر الضعف أمام المنحرفين، مما شجعهم على الاستمرار فى القيام بما قاموا به، والتوسع فى تنفيذه. وبدلا من إيقاف هذه الجرائم باستخدام الوسائل المناسبة وفقا للقانون أصبحنا أمام استمرار هذه الجرائم والتوسع فيها، ولم يتحقق الهدف بمنع الشرطة والقوات المسلحة من سفك دماء المصريين كما كان ومازال متصورا، حيث قامت أطراف أخرى بسفك دماء المصريين ولصق جرائمهم بالشرطة والقوات المسلحة.

أما أخطر ما هو قائم فهو عدم احترام الهيئات القضائية وأحكامها، فلا بد أن نشير إلى أن الجزء الأكبر من الأزمة الحالية إنما هو ناجم عن صدور أحكام محكمة الجنايات فى قضية أحداث استاد بورسعيد فى 2 فبراير 2012، وقد جاء الحكم بما يشير إلى إدانة عناصر من بورسعيد، والهياج القائم ناتج عن رفض كثير من أهالى بورسعيد لحكم المحكمة، وكأن المحكمة كان يجب عليها أن تحكم وفقا لاقتناع أهل بورسعيد ولو أنها كانت فعلت ذلك لكان ألتراس الأهلى فعلوا أكثر مما فعل أهل بورسعيد، وقد قرأنا وسمعنا كيف أن مشجعى الأهلى قالوا إنه لو أن الأحكام على غير ما يشتهون فإن الدنيا « حتولع». هل يمكن أن نقتنع بأن أحكام القضاء يجب احترامها، وفى نفس الوقت الطعن فيها بالنقض، وهو ما سيحدث قطعا، وما زالت أمامنا تواريخ صعبة، أولها يوم صدور الحكم على باقى المتهمين، ويوم قبول محكمة النقض الطعن وإعادة القضية إلى دائرة أخرى، ثم تاريخ إصدار دائرة محكمة الجنايات حكمها الجديد، ثم تاريخ صدور حكم محكمة النقض حكمها للمرة الثانية، وربما يكون هناك تاريخ أو تواريخ أخرى. فهل نحن مستعدون لتلك التواريخ أم أننا سنشعل مصر فى كل مرة؟

■ خبر سياسى واستراتيجى