رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة أول لقاء ودي بين هيكل وعبدالناصر

هيكل
هيكل

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل الثاني من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبد الله السناوي أحد أصدقاء الراحل المقربين.

ويكشف هذا الجزء كواليس أول حوار ودي أجراه الأستاذ مع الزعيم جمال عبدالناصر في شتاء 1953، ليكشف‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬وأفكاره‭ ‬وتجاربه‭ ‬فى‭ ‬فلسطين‭ ‬والسودان‭ ‬ومنقباد،‭ ‬وخلفياته‭ ‬الاجتماعية، وإلى نص الفصل الثاني من "أحاديث برقاش":

فى‭ ‬شتاء‭ ‬عام‭ (‬١٩٥٣‭) ‬خطر‭ ‬لرئيس‭ ‬تحرير آخر‭ ‬ساعة،‭ ‬وهو‭ ‬يقارب‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬إجراء‭ ‬ حوار‭ ‬فى‭ ‬ العمق ‬مع‭ ‬رجل‭ ‬يوليو‭ ‬القوى،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬الخامسة‭ ‬والثلاثين‭.‬

كان‭ ‬معتقدا‭ ‬أنه‭ ‬زعيم‭ ‬الثورة‭ ‬وقائدها‭ ‬الحقيقى،‭ ‬وأراد‭ ‬ـ‭ ‬بالحوار‭ ‬المعمق‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬وأفكاره‭ ‬وتجاربه‭ ‬فى‭ ‬فلسطين‭ ‬والسودان‭ ‬ومنقباد،‭ ‬وخلفياته‭ ‬الاجتماعية‭.‬
وافق‭ ‬ عبدالناصر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فكر‭ ‬فيه‭ ‬ودعاه‭ ‬إلى‭ ‬منزله‭ ‬بشارع‭ ‬الجلالى‭ ‬فى‭ ‬حى‭ ‬الوايلى،‭ ‬وكان‭ ‬منزلا‭ ‬شديد‭ ‬التواضع‭.‬

فى‭ ‬اللقاء‭ ‬تلاقت‭ ‬أفكار‭ ‬وتصورات‭.‬
فى‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الفارق‭ ‬فى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرجلين،‭ ‬وبينما‭ ‬الحوار‭ ‬يستفيض‭ ‬ويسهب‭ ‬فى‭ ‬الوقائع‭ ‬والتفاصيل‭.. ‬متطرقا‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين،‭ ‬توقف‭ ‬ عبدالناصر‭ ‬فجأة‭ ‬عن‭ ‬الكلام،‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬ضيفه‭ ‬الانتظار‭ ‬قليلا،‭ ‬غادر‭ ‬حجرة‭ ‬الاستقبال‭ ‬ليعود‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬ومعه‭ ‬صور‭ ‬ومتعلقات‭ ‬شخصية‭ ‬ورزمة‭ ‬خطابات،‭ ‬بعضها‭ ‬تلقاها‭ ‬بعد‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬أهالى‭ ‬الفالوجة،‭ ‬وبعضها‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬تحية‭ ‬ووالده‭ ‬وعمه،‭ ‬وبرطمان‭ ‬مملوء‭ ‬برمل‭ ‬المنطقة‭ ‬التى‭ ‬حارب‭ ‬فيها،‭ ‬معتقدا‭ ‬أنه‭ ‬سوف‭ ‬يعود‭ ‬إليها‭ ‬ليقاتل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬
غير‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬أحضره‭ ‬دفتر‭ ‬مذكرات‭ ‬شخصية‭ ‬على‭ ‬غلافه‭ ‬الخارجى‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬دمه‭.‬
سأله‭ ‬هيكل: ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬إصابة‭ ‬حرب‭..‬؟.
أجاب‭:‬ لا.. ‬وأخذ‭ ‬يروى‭ ‬قصة‭ ‬بقعة‭ ‬الدم‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬دفتر‭ ‬اليوميات،‭ ‬فأثناء‭ ‬كتابته‭ ‬اليومية‭ ‬مسجلا‭ ‬وقائع‭ ‬القتال‭ ‬وانتقاداته‭ ‬ومشاعره،‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬قصفت‭ ‬القوات‭ ‬اليهودية‭ ‬مقر‭ ‬رئاسة‭ ‬الكتيبة‭ ‬المصرية‭ ‬السادسة،‭ ‬وأدى‭ ‬الارتجاج‭ ‬الشديد،‭ ‬الذى‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬القصف،‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬لمبة‭ ‬الجاز،‭ ‬خشى‭ ‬أن‭ ‬يؤدى‭ ‬سقوطها‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬الغرفة‭ ‬إلى‭ ‬حريق،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يمسك‭ ‬بها‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬فأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬جرح‭ ‬فى‭ ‬يده،‭ ‬وسقطت‭ ‬قطرات‭ ‬من‭ ‬دمه‭ ‬على‭ ‬الدفتر‭.‬
بدت‭ ‬القصة‭ ‬الإنسانية‭ ‬البسيطة‭ ‬التى‭ ‬رواها‭ ‬عبدالناصر‭ ‬مثيرة‭ ‬للالتفات‭ ‬من‭ ‬الصحفى‭ ‬الشاب،‭ ‬الذى‭ ‬غطى‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬فى‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتعرف‭ ‬على‭ ‬أعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أبطال‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬ويعرف‭ ‬ـ‭ ‬باليقين‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬البطولات‭ ‬فيها‭ ‬بلا‭ ‬حصر،‭ ‬وأنها‭ ‬حقيقية،‭ ‬ولكنه‭ ‬يعرف‭ ‬ـ‭ ‬باليقين‭ ‬أيضا‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬عددا‭ ‬آخر‭ ‬ادعوا‭ ‬الإصابات‭ ‬فيها،‭ ‬وحصلوا‭ ‬على‭ ‬أنواط‭ ‬ونياشين‭. ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬يعرف‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬قصة‭ ‬الصمود‭ ‬الأسطورى‭ ‬للكتيبة‭ ‬السادسة‭ ‬فى‭ ‬حصار‭ ‬الفالوجة،‭ ‬وكان‭ ‬ عبدالناصر ‭ ‬أحد‭ ‬أبطالها،‭ ‬وأنه‭ ‬دخل‭ ‬المستشفى‭ ‬الميدانى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬بإصابات‭ ‬خطرة‭ ‬إحداها‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬قلبه،‭ ‬وقاد‭ ‬عمليات‭ ‬كاد‭ ‬يستشهد‭ ‬فيها‭.‬
بدا‭ ‬أمام‭ ‬محاوره‭ ‬واثقا‭ ‬من‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬حسم‭ ‬صراع‭ ‬السلطة،‭ ‬وتجاهل‭ ‬الحديث‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬وأخذ‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬الثورة،‭ ‬وكانت‭ ‬المفاوضات‭ ‬مع‭ ‬الإنجليز‭ ‬للجلاء‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬مشاغله‭.‬
كان‭ ‬يرغب‭ ‬فى‭ ‬تأسيس‭ ‬فكرة‭ ‬جوهرية‭ ‬لثورة‭ ‬يوليو‭ ‬ومستقبلها،‭ ‬ووجد‭ ‬فيما‭ ‬كتبه‭ ‬هيكل‭ ‬تعبيرا‭ ‬حقيقيا‭ ‬عنه،‭ ‬فأفسح‭ ‬المجال‭ ‬لحوار‭ ‬مفتوح‭ ‬بغير‭ ‬تكلف‭ ‬رسمى.. ‬وفى‭ ‬بيته،‭ ‬وأن‭ ‬يسأل‭ ‬كما‭ ‬يشاء‭.‬
فى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تجسرت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرجلين‭ ‬وذاب‭ ‬الجليد،‭ ‬فقبلها‭ ‬كان‭ ‬ إحسان‭ ‬عبدالقدوس،‭ ‬وأحمد‭ ‬أبو‭ ‬الفتح،‭ ‬وحسين‭ ‬فهمي،‭ ‬وحلمى‭ ‬سلام‭ ‬هم‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬يوليو‭ ‬ورجالها‭.‬
رغم‭ ‬أن‭ ‬ هيكل‭ ‬التقى‭ ‬عبدالناصر ‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬وبعدها‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬بعضها‭ ‬مثير،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأقرب‭.. ‬حتى‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬مطلع‭ ‬عام‭ (‬١٩٥٣‭).‬
كان‭ ‬رأى‭ ‬ عبدالناصر‭ ‬أن‭ ‬اليوميات،‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬أثناء‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين،‭ ‬قد‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬استدعاء‭ ‬الوقائع‭ ‬وإدارة‭ ‬الحوار‭ ‬بصورة‭ ‬أفضل،‭ ‬وأودعها‭ ‬أمانة‭ ‬عند‭‬ هيكل،‭ ‬الذى‭ ‬استند‭ ‬إلى‭ ‬الجو‭ ‬العام‭ ‬لليوميات‭ ‬فى‭ ‬اكتشاف‭ ‬ملامح‭ ‬شخصية‭ ‬رجل‭ ‬يوليو‭ ‬القوى‭.‬
كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأحاديث،‭ ‬مضافا‭ ‬إليها‭ ‬يومياته‭ ‬فى‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين،‭ ‬هى‭ ‬الأساس‭ ‬الذى‭ ‬صيغت‭ ‬عليه‭ ‬فلسفة‭ ‬الثورة‭.‬
بعد‭ ‬نحو‭ ‬سنتين‭ ‬استند‭ ‬هيكل‭ ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬اليوميات‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬مذكرات‭ ‬الرئيس‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين،‭ ‬لكن‭ ‬الأصول‭ ‬ـ‭ ‬ذاتها‭ ‬ـ‭ ‬لم‭ ‬يطلع‭ ‬عليها‭ ‬أحد‭ ‬حتى‭ ‬قمت‭ ‬بنشرها‭ ‬مطلع‭ ‬عام‭ (‬٢٠٠٨‭) ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬أهديته‭ ‬إليه‭ ‬أستاذا‭ ‬ومعلما‭ ‬وأبا‭.‬