رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ «2-2»


ذكرنا فى المقال السابق بالعنوان نفسه، بعض المواقف التى يقوم بها المخلوقون، أو بعض الخلق، فيضحك الله تعالى بها وبعباده الذين سلكوا فيها مسالك الصالحين، واستطاعوا فيها أن يهزموا الشهوات والشياطين. وفى هذا المقال نوضح مزيداً من تلك المواقف والسلوك، كما يتضح من القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أقوال العلماء.

عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فبعث إلى نسائه، فقلن ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «من يضم أو يضيف هذا »؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياننا، فقال: هيئى طعامك، وأصبحى سراجك، ونومى صبيانك، إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله- صلى الله عليه و سلم- فقال له: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

لننظر فى هذا الحديث أيها القارئ عن كرم الصحابة، حتى ينزل فيهم هذا القرآن. بعض هؤلاء الصحابة شهدوا شيئاً من حياة الجاهلية، ولكن قيم الإسلام انتشلتهم من قيم الجاهلية السيئة، وثبتت عندهم القيم العظيمة مثل الكرم، وأضاف إليها فجاء الإيثار بعد الأثرة ليصبح سمة عامة.

كما يضحك الرب- تبارك وتعالى- إلى من أخفى الصدقة عن أصحابه لسائل اعترضهم فلم يعطوه، فتخلف بأعقابهم وأعطاه سراً، حيث لا يراه إلا الله الذى أعطاه. فهذا الضحك حباً له وفرحاً به.

وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه، فى قصة آخر أهل الجنة دخولاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيقول يا رب أدخلنى الجنة، فيقول الله: ويحك يا ابن آدم، ما أغدرك ! أليس قد أعطيتَ العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذى أُعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلنى أشقى خلقك ! فيضحك الله عز وجل منه، ثم يأذن له فى دخول الجنة. رواه البخارى ومسلم.

المراد هنا هو إثبات الصفات مع نفى مماثلتها لصفات المخلوقين. كما يقول العلماء. وفى هذا المعنى يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: «قوله: ليس كمثله شىء.. إنما قصد به نفى أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون، ولم يقصد به نفى صفات كماله، وعلوه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكلمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم، كما ترى الشمس والقمر فى الصحو.. ».

نحن نسمع ونبصر، والله هو السميع البصير. السمع والإبصار عند البشر المخلوقين، غير السمع والبصر من صفات الخالق سبحانه وتعالى، فالله هو المدرك لجميع الأصوات مهما خفتت، فهو يسمع السر والنجوى بسمع هو صفة لا يماثلها أسماع خلقه.

وهو المدرك لجميع النيات والمرئيات والمخفيات من الأشخاص والألوان مهما لطفت أو بعدت، فلا تؤثر على رؤيته الحواجز والأستار، وهو – لغوياً - من فعيل بمعنى مفعل، وهو دال على ثبوت صفة البصر له سبحانه وتعالى على الوجه الذى يليق به.

يقول الواسطى رحمه الله تعالى: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ، وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة، كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة. وهذا كله مذهب أهل السنة والجماعة وهو الحق. - رضى الله عنهم أجمعين وألحقنا بهم مؤمنين.! نعم إن الله تعالى ليس كمثله شىء. وقد اِتَّفق أهل السنَّة من جميع المذاهب الفقهية على أنَّ الله تعالى ليس كمثله شىء، لا فى ذاته، ولا فى صِفاته، ولا فى أفعاله. هذا يعنى أنّ خصائص الربّ تبارك وتعالى لا يوصف بها شىء من مخلوقاته، فعِلْم الله وقدرته أكبر وأعظم وأقدم من علم وقدرة المخلوقات، ولا يُماثله شىء من صفات مخلوقاته، لا المخلوقات تُماثل صفاتُها صفاتِ الله، ولا صِفات الله عز وجل – إلا بعضها لفظاً- يُمكن أن توصَفَ بها مخلوقاته.

ليس كمثله شيء، ردّ قرآنى جميل على من شَبَّه ومثَّل صِفات الله بِصفات مادِيّة، فهذا الذى يقول: له سَمْعُ كَسَمْعِنا، وإذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، وهذا صحيح، ولكن بعض الخطباء يشْرح هذا الحديث ويقول: ينزل كَنُزولى هذا وينزل عن المنبر درجة! فأنت إذا قلتَ: ليس كمثله شىء، فلا يمكن أن يوصف مخلوق بِصِفَةٍ خاصَّةٍ بالله، وإذا قلت: ليس كمثله شىء، فلا يمكن أن يرقى مخْلوق بِصِفاته إلى صِفات الله تعالى. ولعل أولئك الخطباء يقلعون عن هذا التشبيه. إنَّ الله تعالى سَمَّى نفْسه بِأسْماء، وسَمَّى صِفاته بِصفات، وأطْلَقَها على بعض عباده فى القرآن الكريم، والمعْلوم القَطْعى أنَّ الحَيَّ لا يُماثِلُ الحيَّ الآخر، فالله تعالى حَى والإنسان كذلك، إلا أنَّهُ شتَّان بين الحياتين! وكذلك يُقال فى العزيز والعليم وسائر الأسْماء. قال تعالى: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ». ولعلنا قد فهمنا – فى هذا المقال – متى ولماذا يضحك «يعجب» الله تعالى، وفهمنا الفرق بين صفات الله تعالى وصفات المخلوقين رغم تشابه الألفاظ لغوياً، وللحديث صلة عن غضب الله تعالى عندما ينزل على بعض عباده ممن يستحقون بشركهم وإلحادهم وكفرهم ذلك الغضب بقدره وعدله. والله الموفق.