رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حول منظومة التعليم


كل هذا بفضل تلك المرحلة الرائعة التى مرت بها منظومة التعليم الممنهجة والمؤمنة بعمق بأن التعليم هو جهاز المناعة لأى أمة، لذا ينبغى أن يكون قويًا حتى يستطيع مقاومة الفيروسات التى تهاجم جسد المجتمع فلا يقع فريسة ما يتكالب عليه منها فيسقط صريع الغزو الثقافى والفكرى ويترنح فى براثن تيارات الانحلال والتفكك أو التيارات الإرهابية المختفية تحت عباءة الدين وقلنسوته. وبداية يجب أن نحدد بالضبط ماهية التعليم، قبل أن نخوض فى تعريفات وتهويمات لن تصل بنا إلا إلى طريق مسدود ؛ لكثرة التعريفات التى اجتهد فيها الباحثون والمنظرون وأصحاب الرؤى التى لا تتفق إلا مع مصالحهم الضيقة، ولا تراعى مستقبل الأمم والشعوب، فالتعليم ـ بحسب رؤيتى ـ فى أوسع معانيه هو أى فعل أو خبرة لها تأثير على تكوين العقل والشخصية، أو القدرة البدنية للفرد، وهو العملية التى يتم من خلالها تراكم المعارف والقيم والمهارات من جيل إلى آخر فى المجتمع؛ عن طريق المؤسسات التى تخضع لإشراف الدولة وطبقًا للخطط المستقبلية التى يضعها نخبة من الأساتذة والعلماء، والتى تكون بمثابة « المانيفستو» أو ميثاق الشرف الذى يجب أن تسير عليه تحت كل الظروف المجتمعية والسياسية، وليست بحسب أهواء من يصلون إلى قمة السلطة التنفيذية.

نحن فى حاجة بالفعل إلى «ثورة» فى التعليم، وهذا ليس تعبيرًا مجازيًا، فقدرأينا ببؤبؤ أعيننا وعشنا سنوات التجريف الذى أصاب كل مناحى الحياة فى المجتمع المصرى طوال حقبة انصرمت بكل موبقاتها، نتيجة ترك «الحبل على الغارب» للمؤسسات الأهلية الطفيلية التى كُشف عنها النقاب مؤخرًا، لقيامها بما يسمى «تسييس» العملية التعليمية باحاطتها بمخالب وبراثن من يعملون بطريقة أحادية الهدف ؛ وهى تخريج ـ وعفوًا للتعبير ـ قطعانًا من الذين جُبلوا على الطاعة العمياء لاتجاه الفكر الواحد من المتشددين دينيًا وعقائديًا ؛ دون إعمال لسلطة العقل، فانقسم المجتمع على نفسه وضربت فى أوصال جسده كل التقيُّحات الفكرية العقيمة التى لا تؤدى إلا إلى مجتمع الإرهاب والتعصب. ولست أورد هذا من عندياتى.. فكلنا عانى من هذا الوباء الذى تفشى فى الجيل الجديد من الشباب لأننا تركناه بين يدى دعاة الفتنة والانقسام.

لهذا كان ندائى ـ بل صرختى ـ بضرورة وأهمية «الثورة» بكل جمالها اللغوى المادى والمعنوى، للحاق بركب من علمناهم وسبقونا كالصين وماليزيا وكوريا، ورأينا عندهم الأطفال فى الحقول يتحلقون حول «سبورة» على جذع شجرة ينهلون العلم من منابعه ومن شباب تم تجنيدهم لهذا الغرض بدلاً من تسكعهم على المقاهى ليكونوا ضحايا وفريسة لكل من يستغلهم، فحققت تلك البلاد طفرة هائلة لأوطانهم وللإنسانية.

هل أتجاوز الخطوط الحمراء إذا طالبت بضرورة «تأميم التعليم» كما ناديت من قبل بضرورة «تأميم الطب العلاجى»؟ وتكون تلك الخطوة الجريئة هى الثورة الحقيقية بتشديد يد الدولة على كل المراحل التعليمية من الحضانة إلى الجامعة، فلا نترك عقول الأجيال نهبًا لتجار التعليم والمراكز التعليمية الأهلية التى لا يهمها سوى التربح وحصاد الملايين من الجنيهات، دون النظر إلى بناء الأجيال التى ستقود الوطن فى المستقبل، ولن يتأتى هذا إلا بالعمل على إخضاع تلك المراكز لإشراف الدولة وإغلاق من يرفض الانصياع والخضوع إلى المنظومة التعليمية التى تضعها بأيدى العلماء والأساتذة الشرفاء المؤمنين بقدسية رسالة التعليم وأهميته. هذا الأمر ليس بمعضلة تستعصى على الحل، فملايين الشباب من خريجى الجامعات والمعاهد المتوسطة فى الشوارع، يواجهون شبح البطالة البغيض ولا يحتاجون إلا إلى فترة تدريب قصيرة لقيادة هذه الثورة فى المدن والحقول والنجوع والكفور، والثورة لن تكون مقصورة على تدريس المواد العلمية والأكاديمية، فقد استطاعت الهند والصين وكوريا الاستعانة بالحرفيين والصناع المهرة لتعليم النشء الحرف والصناعات اليدوية مع مبادىء حروف اللغة وغزوا أسواق العالم بكل المنتجات التى يحتاجها الإنسان، ولدينا القدرة والأعداد البشرية الهائلة من ذوى العقول المتفتحة و«المعلِّم» الواعى الذى ينتظر الفرصة باتاحة المناخ الملائم ويعتبر نفسه لا يقل أهمية عن الجندى فى الميدان.

ترى.. ماذا لو امتد العمر بالعميد «طه حسين» إلى عصرنا هذا .. هل كنا سنصل إلى مانحن عليه من ترد وانهيار فى المنظومة التعليمية؟

أستاذ الدراسات اللغوية- أكاديمية الفنون