رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد قطب من أمريكا إلى الجاهلية «1-2»


انتبه، نحن نتحدث عن سيد قطب صاحب دستور « جاهلية المجتمع» الذى أطلق عليه «معالم فى الطريق» هذا الكتاب الذى يعد أخطر كتاب فى القرن العشرين إذ إنه كان بمثابة المنهج الفكرى الذى قامت عليه كل حركات التطرف والإرهاب،

وإذا كانت جماعة الإخوان قد ظلت زمناً تتبع منهج حسن البنا إلا أنها هجرته ذات مساء وأخذت تنهل من معين سيد قطب التكفيرى حتى أصبح من الإنصاف أن نقول إن مؤسس جماعة الإخوان الحالية هو سيد قطب أما حسن البنا فقد أصبحت جماعته فى ذمة التاريخ، لذلك فإن الحديث عن سيد قطب هو فى حقيقته حديث عن مؤسس جماعة الإخوان الحالية الذى كانت حياته كلها عبارة عن عدة مراحل فكرية.

نعم لم يكن سيد قطب «مرحلة فكرية واحدة» أطلت علينا بغتة دون أن تكون لها مقدمات ولكنه كان نسيجاً فكرياً مُرَكباً تشكل على مهل من الطفولة إلى المشنقة، وما بين البداية والنهاية كان سيد قطب الشاعر الشفيف الملهم الناقد صاحب النفسية الاستشرافية، ثم سيد قطب المفكر الباحث الذى يرتشف رحيق المعارف من مختلف المصادر ليخرج لنا أنوار المعرفة، إلى أن أصبح سيد قطب صاحب المشروع الفكرى الأهم والأخطر فى القرن العشرين .

أما عن شخصية سيد قطب الشاعر الناقد فقد تشكلت فى بدايتها من خلال قرية موشا التى نشأ فيها وهى إحدى قرى محافظة أسيوط، وكانت قريته ذات طبيعة خاصة جمعت بين النيل والجبل والبساتين والحقول، فكانت هذه القرية هى المعين الأول الذى أمد نفسية ذلك الصبى النحيف بالشاعرية، وكان اللافت عليه منذ سنوات عمره الأولى أنه ليس كغيره من الصبيان فى الشغب والانفلات ولكنه كان دائم التأمل حتى ليبدو أمام الآخرين وكأنه فى تأمله انفصل عن الواقع وعاش فى دنياه الخاصة .

كان الشعر هو محطته الأولى فى الحياة وكان كتابه الفريد « مهمة الشاعر فى الحياة » هو كتابه الأول، كتبه وهو فى سنته الأخيرة من دراسته فى «دار العلوم» فأفصح هذا الكتاب عن نبوغ مبكر، ومن «مدرسة أبولو» الشعرية إلى أحضان مدرسة عباس العقاد الأدبية والتى أُطلق عليها «مدرسة الديوان» ثم بدأ قطب يشق طريقه الفكرى بمعزل عن العقاد فقد استقام عوده واتسعت مداركه وأصبح التلميذ أستاذاً.

كان الشعر والشعور هو وسيلة قطب فى الدخول إلى عالم الفكر والأفكار، فمن شاعريته وتأمله أخرج لنا عام 1945أول كتاب من نوعه يتحدث عن التصوير الفنى للقرآن الكريم، كان قطب معنياً فى هذا الكتاب بالصور الفنية والجمالية فى التراكيب اللغوية القرآنية، وكانت لمساته فى هذا الكتاب لمسات شاعر يستشرف الصور والأخيلة ولمسات ناقد يبرز لنا الجمال الذى قد يخفى عن عيوننا .

ومن بعد أخرج لنا كتابه عن « العدالة الاجتماعية فى الإسلام» كتب قطب وقتها كتبه هذه وهو يتحرك ويموج وسط المجتمع المصرى بأطيافه فمنه استمد شاعريته وإليه يمده بأفكاره الحية المتدفقة، لم ينفصل قطب نفسياً عن الناس وقتها بل كان متصلاً ومتواصلاً مع الجميع يساهم مع غيره فى اكتشاف المواهب الفذة ويقدم بعضهم للحياة الأدبية، ويمد يده إلى أعماق أعماق الحياة ليستخرج الكنوز ثم يبذر ثروته الفكرية على الجميع حيث لا استثناء لأحد أو تغييب لأحد، كان قطب وقتها «يعيش بعقلية النحلة التى تحط على كل البساتين فتأخذ من الجميع لتُخرج لنا جميعاً عسلاً فكرياً جماليا سائغاً لذة للشاربين».

وفى وسط هذه الأيام ذات الرحيق الخاص وتحديدا فى أغسطس من عام 1948 سافر سيد قطب إلى أمريكا فى بعثة تابعة لوزارة المعارف العمومية لدراسة النظم التعليمية حيث كانت وزارة المعارف بصدد وضع تصور جديد للتعليم فى مصر وطرقه، فمن غير أمريكا التى غيرت وجه العالم يستطيع أن يمدنا بتصورات وطرق التعليم ؟ ومن غير سيد قطب بذكائه الحاد وتميزه يستطيع أن ينقل لنا من القارة الجديدة طرقاً ونظماً للتعليم ويقوم بتمصيرها، سافر قطب إلى أمريكا وظل بها عامين كاملين حيث انفتح على حضارة العالم الوليد، عالم أمريكا التى شاهدها سيد قطب وكتب عنها ( أمريكا التى رأيت ) .

أمريكا التى رآها قطب ودرس خريطتها الاجتماعية والتعليمية هى كما يقول (الدنيا الجديد ذلك العالم المترامى الأطراف، تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطى والباسيفيكى، ما الذى تساويه فى ميزان القيم الإنسانية ؟وما الذى أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه فى نهاية المطاف ؟ ) .

كان الشغل الشاغل لقطب فى هذه المرحلة هو «القيم الإنسانية» التى توافق عليها البشر، كان ميزان القيم الإنسانية هو الميزان الذى يزن به قطب الحضارة الأمريكية، إذ لم يتوقف عند الآلات والاختراعات ولكنه توقف على حد قوله عند ( مدى ما أضافته تلك الآلات إلى الرصيد الإنسانى من ثراء فى فكرته عن الحياة ) كان الرصيد الإنسانى والقيم الإنسانية والمعارف الإنسانية والموسيقى والفن والرسم والأوبرا والسيمفونيات والباليه هى مفردات سيد قطب فى مذكراته عن أمريكا، كانت هى أمريكا الحائرة المحيرة التى رأى أن مشاربها تتجه حيناً إلى العنف والغلظة والأنانية التى تصل إلى حد الإجرام، وأمريكا الإنسانية التى ارتقت أحاسيسها بالفن والموسيقى والباليه والسيمفونيات والرسم، لقيت أمريكا الخشنة نفوراً من ذلك الشاعر صاحب النفسية الرقيقة ومج ألعابها العنيفة حتى إنه دخل إلى ملاعبها ليشاهد لعبة كرة القدم فوجدها تختلف عن كرة القدم التى نعرفها ووجدها لعبة تسعى إلى إيقاف المنافس بكل الطرق غير المشروعة حتى إن العنف ليصل فيها إلى حد لا يوجد له مثيل فى الألعاب الرياضية، ويفزع قطب أيضاً من حفلات الملاكمة الوحشية والمصارعة القاتلة التى يهيم بها المجتمع الأمريكى ويصخب فرحاً بمشاهد العنف فيها، استلفت نظره وهو صاحب الرؤية الاجتماعية أن الثقافة الأمريكية قامت على الإقصاء والتغييب وإنكار الآخر ولم تهتم بالفروق الإنسانية !! إذ إنها حضارة قامت على أنقاض الهنود الحمر فيقول فى ذلك: ( الأمريكى بفطرته محارب محب للصراع وفكرة الحرب والصراع قوية فى دمه، بارزة فى سلوكه، وهذا هو الذى يتفق مع تاريخه كذلك، فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها، قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع وهناك قاتل بعضهم بعضاً وهم جماعات وأفواج، ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين «الهنود الحمر» وما يزالون يحاربونهم حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة ) .

كانت عقلية قطب وهو يضع مبضعه على جسد الحضارة الأمريكية هى عقلية عالم الاجتماع الذى يرى أن إنسانية المجتمعات مرهونة بالتوافق والتعاون تحت مظلة القيم الإنسانية لا فرق بين هذا وذاك إلا بقيمه وأخلاقه وإنسانيته، وكان يرى أن الصراع وشعور أمريكا بالتميز ورغبتها فى إقصاء الآخرين هو أول معول يهدم حضارتها ،وكانت لمحاته فى مذكراته تقود إلى أن عودة أمريكا إلى الكنيسة وإلى الدين هو الذى من الممكن أن يرتقى بمشاعرها وإنسانيتها لذلك لم يجد غضاضة فى أن يدخل الكنائس ويشاهد الصلوات والتراتيل فيها فقد كان شغوفاً بدارسة المجتمع الأمريكى من كل الجوانب .

أمريكا التى رآها قطب هى كما يقول (الدنيا الجديد ذلك العالم المترامى الأطراف، تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطى والباسيفيكى، ما الذى تساويه فى ميزان القيم الإنسانية ؟

كان الشغل الشاغل لقطب فى هذه المرحلة هو «القيم الإنسانية» التى توافق عليها البشر، كان ميزان القيم الإنسانية هو الميزان الذى يزن به قطب الحضارة الأمريكية