رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحيا العــدل


لم أكن أدرى عندما جال بخاطرى سؤال عن مفهوم كلمة «عَدْل» أن هذه الحروف الثلاث ستحيلنى إلى عشرات المراجع والمجلدات التى يعج بها التراث الإنسانى منذ «حمورابى» و«بوذا» و«كونفوشيوس» و«ماركس» و«ذرادشت» و«مزامير داود» و«أفلاطون»، وصولاً إلى «عمر بن الخطاب»، الذى قيل فى وصفه إنه «العدل» يمشى على قدمين...
وعرف الخليفة عمر بن الخطّاب بالعدل وسمىّ بالفاروق من شدّة عدله وحسن سياسته بين النّاس وأخذه على يد الظالمين والانتصار للمظلومين حتى رآه يوماً رسول قيصر وقد سأل عنه فلم يجده فى بيته ووجده تحت شجرة متمددًا قد غلب عليه النعاس، فنام.. فقال قولته الشهيرة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، فالعدل هو أساس الملك والحكم بين الناس.

وقد نصل سويًا إلى اتفاق وقناعة لمنطوق كلمة «العدل» بأنه عبارة عن الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط، وهو مفهوم أخلاقى يقوم على الحق والأخلاق والعقلانية، والقانون، والقانون الطبيعى والإنصاف، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف السامية جاءت الأديان السماوية وظهر المصلحون الاجتماعيون ــ ممن أشرت إليهم ــ الذين أعطاهم البعض من مريديهم صفات هى الأقرب إلى صفات القديسين والرُّسل، بل واتخذوا منهم قدوة ومثالاً فى كل مناحى حياتهم.. فالكل يبحث عن العدل: العدل فى القصاص.. العدل فى الموازين.. العدل بين الأبناء والأهل..العدل من القاضى الذى يمثل يد الله فى الأرض.. العدل فى الحكم..إلخ، ولعل العدل فى الحكم هو المراد من البحث عن منطوق العدل والعدالة التى ينفذها الحاكم.. ومن هنا يرى «أفلاطون» صاحب حلم المدينة الفاضلة أن الحاكم لا يصلح ولا يكون إلا فيلسوفاً ويسميه المثل الأعلى، والسبب الرئيسي فى ذلك هو أن الفيلسوف أو الفلاسفة الحكام هم وحدهم الذين يدركون التصور المثالي للحكم لا سيما وأنهم لا يبتغون السلطة من أجل المال أو الجاه أو التسلط. بل غايتهم التى يرجونها هى إقرار العدل بين البشر.

ولعل المقولة الشهيرة: أن العدالة عمياء ــ وهى ليست كذلك ــ لم تـُقَـل إلا للدلالة على أن المساواة فى العدل لاتفرِّق بين عربى ولا أعجمى، ولا أبيض وأسود، ولا بين غنى وفقير، ولا بين الحاكم والمحكوم، فتخيل الفنان على مر العصور تمثال «العدالة» الشهير فى صورة أنثى ـ ربما احترامًا وتبجيلاً لتاء التأنيث ـ وهى معصوبة العينين برباط أبيض يدل على الشفافية والطهارة وعدم التمييز، ولا ديدن لها إلا استقامة كفتى الميزان بمعيار النزاهة والشرف.

ولعل المشهد الأخير على الساحة المصرية بتنفيذ القصاص الواجب والعادل من قاتل الأطفال بالإسكندرية «محمود رمضان»، قد أثلج الصدور الملتاعة التى شهدت بأعينها قسوة ماارتكبه هذا القاتل بكل الدم البارد، فكان الارتياح لإقرار العدل هو السائد بين الجموع ولكل من عاش وشاهد هذا الحدث الوحشى، وقد نال هذا الجزاء بصفته مجرمًا قاتلاُ وليس لانتمائه لفصيل هنا أو هناك.. لذا وجب التنويه،والأغرب أن يصرخ صناع الإرهاب والقتل فى الشارع المصرى باستنكار إقرار هذا «العدل» فى هذا القصاص، لالشىء إلا لمجرد إثارة البلبلة على الساحة السياسية المصرية، ولأن العدالة تفجر البهجة والسرور مثل الأفراح والأعياد.. فكان من الطبيعى أن نجد فى فرح العدالة هذا أن جموع المترقبين لصدور الحكم العادل بالقيام بتوزيع الشيكولاتة فى يوم اعتبروه عيدًا من أعياد العدالة هاتفين فى أرجاء المحروسة: يحيا العدل ! تحيا مصر! فمن قتل يقتل ولو بعد حين هذه هى عدالة السماء السارية على رءوس العباد.

مركز اللغات والترجمة ـ أكاديمية الفنون