رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نقطـة نظــام


المتأمِّل فى اللوحات الجدارية المنحوتة على جدران المعابد بأصابع وإزميل الفنان المصرى العظيم فى العصر الفرعونى ؛ كاللوحات التى جسَّدت مراحل أعمال الفلاح المصرى فى الزراعة ؛ مثل لوحات «الحصاد» و«حاملات الجرار» و «شتل الأرز»، وخاصة التى تعبر عن قوة وجلال وعظمة الجندى المصرى وطريقة اصطفاف الجنود والدروع والحِراب وخطوات الأقدام والمركبات الحربية.
حتمًا سيلمح بكل الانبهار مدى ماجسدته تلك اللوحات الجدارية عن مدى «النظام» الذى اعتنى به وقام بالتركيز عليه، وكأنه يقول إن النظام هو تجسيد لكل الجماليات التى تمر فى جنبات حياتنا، وأراد أن ينقلها إلى كل من يقف متأملاً عظمته وفنه وإبداعه ؛ ولعله استوحى هذا النظام البديع من تأملاته بالفطرة إلى تشكيلات وانتظام سنابل القمح والحنطة وحبات الباذلاء ؛ ووصل بالفطرة أيضا إلى أن وراء كل ذلك لابد من وجود الخالق العظيم الذى خلق وأبدع وهندس تلك النباتات العظيمة التشكيل والنظام ؛ حتى قبل وجود الأديان والأنبياء والرُّسل على ظهر البسيطة.. ووصل بقناعة تامة وعقلانية أن هذا النظام الذى ابتدعه الخالق العظيم لم يكن بمحض الصدفة أو بعشوائية مرتجلة ولكنها بالضرورة للحكمة والموعظة والارتقاء ببنى البشر فى سلوكيات حياتهم، لذا حذا حذوه فى احترام هذا النظام الذى ينعكس بالضرورة على استقامة كل الدروب فى الحياة التى نحياها على الأرض.

ولكن بعد هذا التحليق فى أجواء العصر الفرعونى بنظامه وفنونه وإبداعاته.. تعالوا لأهبط بكم إلى أرض الواقع المؤلم الذى نعيشه كل لحظة فى شوارعنا، ونتجول معًا فى دروب ومتاهات «اللانظام» الذى يضرب أطناب الشارع المصرى فى كل السلوكيات، لنجد للغرابة أن النظام السائد هو «اللانظام» !! تمامًا كما اتفق العرب على ألا يتفقوا !! حتى إذا اتفقوا فالاتفاق لهُنيهة ٍ طالما انقشعت السحابة التى كانت تهددهم بالمطر الأسود، ويتناسون لحظات الخطر الذى يحدق أو كان يحدق بهم و«تعود ريمة لعادتها القديمة»!!

فنجد الأرصفة قد تآكلت وأصبح البائع يعتبرها حقًا مكتسبًا له (يفترسه ويفترشه» ببضاعته، والويل والثبور وعظائم الأمور إذا لفت نظره إلى ذلك أحد.. وبما أن الشىء يتبع الشىء فلا مانع من الانفلات بالتبعية فى كل شىء، طالما لايوجد قانون رادع لأحد.. ليكون «اللانظام» هو السائد فى كل شبر على أرض المحروسة.. قس على ذلك طريقة قيادة السيارات وعدم احترام الغير وإشارات المرور، والطوابير التى من المفترض أنها تعطى الأولوية والحق لمن حضر أولاً ليحافظ على وقته ومجهوده ،وابتكار أساليب وأنماط «الفهلوة» القميئة فى إثبات الذات المتعالية القوية فى فرض السطوة بلا أدنى ذوق او احترام للغير. وتحويل كلمة «سياسة POLITICAL» إلى «بولوتيكا» وماأدراك ماالبولوتيكا !

وكلنا يذكر كيف قامت الحكومة الألمانية فى سنوات الثمانينيات من القرن الماضى بتخصيص مدارس للأطفال المهجَّنين «أى من أب مصرى وأم المانية) لملاحظتهم أن الأطفال المولودين فى ألمانيا من أب ٍ مصرى، عندما ينطلق جرس انتهاء اليوم الدراسى يتدافعون إلى الخارج وبدفعون زملاءهم فى همجية وهم يدقون على حقائبهم ويهتفون احتفالاً بانتهاء اليوم، مما يتسبب فى أضرار بليغة لبقية الأطفال الذين يتساقطون أمام إندفاعهم الهمجى إلى الخروج.. فكان القرار بفصل تلك العناصر المهجَّنة فى مدارس خاصة بهم. وبالدراسة والتحقق من تلك الظاهرة.. إتضح أن الأب المصرى ـ دون وعى يلقن اطفاله تلك السلوكيات بحكم طبيعة النشأة المصرية قبل الرحيل إلى بلاد الفرنجة فى ألمانيا.

ترى.. من الذى زرع فينا هذا المثلث المقلوب فى حياتنا ؟ هل هى فعلاً الجينات الوراثية كما يدَّعى البعض من منظرى البولوتيكا؟ واجيب أنا : أبدًا بالقطع.. فالجينات الوراثية عند المصريين تحمل كل معانى النظام وأخلاقياته الرائعة وتشهد بذلك جدران المعابد منذ أقدم العصور، ولكنها التربية وتعلم النظام منذ نعومة الأظفار فى البيت والمدرسة وضرورة الهتاف به فى طابور الصباح!!

مركز اللغات والترجمة أكاديمية الفنون