رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خفافيـش ولانخيل؟!


مَنْ منـا لم يأخذه الشوق إلى زيارة مدرسته الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية، أو يعود ولو للحظات إلى مدرجات الجامعة ليجلس بين الطلاب ليستمع إلى ضجيج الزملاء وتعليقاتهم واقتسام الساندويتش، كما كان يفعل فى أيام الطفولة والشباب، ويستمتع من جديد بذكريات عن زمن فات.. أو ليتذكر أمنية كانت تبرق فى سماء حياته عن شريك المستقبل المتمـثل فى ذهنه، ويرمح بحصان خياله فى أيام مابعد التخرج وآماله فى الغد المرتقب.ولكن ما بالنا إذا تحوَّل هذا المكان الذى يملأ جنبات الذاكرة خلال فترة الصبا والشباب.. إلى مأوى وملاذ للخفافيش ــ ولست أقصد خفافيش البشر فهم حتمًا إلى زوال ــ ولكن أقصد حيوانات الخفافيش التى هالنا هجومها السافر والكاسح على رؤوس النخيل والأشجار داخل باحة صرحنا العلمى بأكاديمية الفنون وحول معاهدها العملاقة داخل حرم الأكاديمية .. وكدت أسير فى موكب المعارضين لإزالة الأشجار والنخيل التى وضعت منذ حوالى تسع سنوات بحديقة الأكاديمية كنوع من محاربة تلك الخفافيش للقضاء على أعشاشها وأوكارها وللتخلص من مخلفاتها التى تجلب مرض «الإيبولا» الخطير.. ولكنى عندما علمت الغرض المقصود خلف تلك الإزالات.. تيقنت أن عملية «البتر» كانت لابد أن تتم .. تمامًا كما يتدخل مبضع الجراح الذى يزيل إصبعًا فى القدم للحفاظ على الجسد والروح لصاحبه.

فالخفافيش «الوطاويط» التى احتلت أعالى النخيل والأشجار.. لم تقتصر فى هجومها على ذؤابات هذه الأشجار، ولكنها احتلت حجرات الصيانة لموتورات المصاعد وأكشاك الكهرباء ودورات المياه داخل مبانى المعاهد بالأكاديمية.. وأفسدت بهجة التواجد للطلاب داخل حرم الأكاديمية.. وأفسدت بهجة جو المكان بمخلفانها المتساقطة على رءوس كل من يتواجد بالحديقة التى من المفترض أنها لمزيد من الجمال لا لانتشار الأوبئة، خاصة أننا نعرف أن الخفافيش لاتزال تحافظ على شهرتها المرعبة خلال أسوأ تفش للإيبولا فى العالم بوصفها المشتبه به الرئيسى المسئول عن نقل الفيروس القاتل.. وأنتهز تلك الفرصة لنزيد معلوماتنا الثقافية الضرورية عن حيوان الخفاش وخطورة أضراره على المجتمع والبيئة.. فهو من طائفة الثدييات الطائرة ويعرف منه مايقارب من مائة صنف، يعيش بالمناطق الحامية وجسمه عادة صغيرويشبه رأسه رأس الدب أو الكلب الألمانى ويوجه نفسه بواسطة موجات صوتية لا يسمعها الإنسان، ويعيش على أكل الحشرات والأسماك، والبعض منها يمتص دم البقر حتى تموت، وهذه العائلة من الثدييات هى الطائفة الوحيدة من الطفيليات التى تمتص الدم، ويفرز لعابا يمنع دم الفريسة من التجمد ويمتص دم البهائم خلف أذنيها والإنسان من طرف إبهام رجله، ومن الطرائف الموجودة فى تراث القصص الشعبى المصرى وحواديت «جدِّتى» التى انتشرت كمعتقد شعبى فى أذهان العامة والبسطاء ما قيل عن أن حيوان الخفاش يهاجم الإنسان ويلتصق بلحم الوجه ليمتص الدماء.. ولا ينفصل عن الالتصاق إلا «بالطبل البلدى» على حد قول من قاموا بإنشاء حواديت التراث والفولكلور الذى تناقلوه عبر الأجيال، وهو شىء لم يتأكد عمليًا على صعيد الأحداث ولكنه كالأساطير التى يتبادلها العامة فى أحاديث المساء وحكايات ما قبل النوم للأطفال.

إذن فالمعادلة صعبة بين الاحتفاظ بجماليات المكان بتواجد هذه الأشجار والنخيل، وبين احتمالات انتشار الأمراض والأوبئة الخطيرة بين شبابنا من الطلاب.. وساعتها لن يكون للجمال معنى مع أجساد مريضة.. وجاء قرار التخلص من بؤر تمركز تلك الخفافيش قرارًا صائبًا بكل أبعاده، ولابد من إعادة دراسة كيفية إضفاء المسحة الجمالية على المكان باعتباره كعبة الفنون والإبداع، والتفنن فى ابتكار وسائل مستحدثة تضمن تحقيق المعادلة الصعبة بين الجمال والمحافظة على الأرواح والممتلكات العامة من الخسائر التى تكبدنا ملايين الجنيهات فى الاصلاح والصيانة وإعادة الإحلال والتجديد لما تفسده تلك الحيوانات بأوكارها التى تختارها داخل أبنيتنا العامة.. وما ينطبق على أكاديمية الفنون يجب أن يشمل جميع الجامعات وحتى المؤسسات والهيئات التى تواجه المشكلة نفسها منعا لإهدار المال العام.

مركز اللغات والترجمة -أكاديمية الفنون