هذه السيدة هى أمى
أذكر فى طفولتى أننى التحقت بحضانة للنوبيين قريبة من المنزل، وكانت تحرص على الذهاب بى إلى المدرسة ثم العودة بى منها. وهنا أتذكر تلك القصة التى طالما كانت ترددها على إخوتها وزوجاتهم وجيراننا. فى أحد الأيام تأخرت هى عن الحضور إلى المدرسة للعودة بى إلى المنزل! وعندما حضرت مُسرعة وجدتنى أجلس وحيداً بفناء المدرسة أبكى، وما أن رأيتها حتى أسرعت نحوها قائلاً: (هو أنتِ يا ماما نسيتينى؟) وهنا انفجرت هى فى البكاء وضمتنى نحو صدرها وقالت لى: (هو أنا أقدر أنساك؟ أنا بس اتاخرت بسبب إعداد الطعام).
ثم بعد ذلك التحقت أنا واخوتى بمدرسة إحدى الإرساليات الأجنبية بالإسكندرية فى المرحلة الابتدائية. وكانت قد اعتادت أن تصطحبنا جميعاً ونحن أطفال إلى الكنيسة فى يوم الأحد. ثم لاحظت فى فترة أننا نخاف أن نذهب معها إلى الكنيسة ونود أن نذهب إلى كنيسة المدرسة!! فعندما استفسرت منا عن السبب قلنا لها: (قالوا لنا فى المدرسة، من لم يحضر الكنيسة يوم الأحد، ففى يوم الاثنين سنضعه فى حجرة الفيران!!). وهنا قالت لنا: (لا تخافوا). وفعلاً فى يوم الاثنين توجهت وذهبت لمقابلة ناظر المدرسة، وقالت له: (ما هذا الذى تقولونه للأولاد الصغار؟ أولادى تربوا فى أحضان الكنيسة القبطية، وأحرص كل يوم أحد أن اصطحبهم معى إلى الكنيسة. فلماذا هذه التهديدات؟). وهنا لم يكن أمام السيد الناظر الفاضل إلا أن يقف ويقدم لها التحية الواجبة وقال لها: (أهنئك على حُسن تربيتك لأولادك. أما نحن فقد فعلنا ذلك حتى نضمن ذهاب الأولاد إلى الكنيسة يوم الأحد، أى كنيسة بدون تحديد، لأن هناك أولياء أمور كسالى فى هذا الموضوع). فقالت له: (لكن أسلوب التخويف أسلوب غير تربوى!! كيف يذهب الأولاد للكنيسة وهم خائفون؟). هذه أم حكيمة وواعية بالحقيقة.
انضمت إلى مجموعة من سيدات الكنيسة فى العمل الاجتماعى، فكن يقمن بعمل مشغولات يدوية بدقة فائقة، بالإضافة إلى الأنواع المختلفة من المربى وعصائر الفواكه والحلويات، ويذهبن بها للمعرض الخيرى الذى تقيمه الكنيسة على مدى أسبوعين فى فترة صوم السيدة العذراء، وكان إيراد المعرض مخصصاً للفقراء والمحتاجين. عندما سافرت للدراسة بكندا فى سبتمبر 1975، كانت تحرص أن ترسل لى بعضاً من أعمال يديها، ومازلت محتفظاً ببعضها كذكرى طيبة منها. وبعد فترة من المرض لم تتجاوز بضعة أشهر، أراد الله أن يريحها من أتعاب المرض، فغادرت الحياة عن 54 عاماً فى ليلة 12 فبراير 1978 بعد حياة مجيدة وأعمال جليلة، وبعد أقل من عام رحل أيضاً زوجها حزناً على فراقها. هكذا كان الزمن الجميل.
■ أستاذ بكلية الهندسة ــ جامعة الإسكندرية