رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حارة الشهيد نجاتى


كنت فى العاشرة من عمرى وقت حرب سبعة وستين، تلك الحرب التى قالوا عنها نكسة، وكنا نعيش فى «إنشاص» حيث المطار الحربى وقوات الصاعقة، كانت قلوبنا ممتلئة بالحياة وكانت حدائق الإصلاح الزراعى و«جنينة النباتات» و«جنينة الصبار» ذات الشهرة العالمية تدعونا وتدفعنا للانطلاق، وإذ كنا نرى جنود الصاعقة وهم يقومون بتدريباتهم القتالية بقوة وجدية على ضفة «ترعة الإسماعيلية» تنتشى أفئدتنا وتنطلق أقدامنا نتسابق معهم فى طابور صاعقة وهمى من «أطفال إنشاص»، وكنا نحاكيهم ونقلدهم فى حركاتهم ونجرى بجوارهم ونحن ننشد الأناشيد التى تتهكم على قادة إسرائيل.

وفى صباح الخامس من يونيو استيقظنا على زئير الطائرات وأصوات الانفجارات، ورغم تنبيهات الآباء المشددة لنا بعدم الخروج والانتظار لحين معرفة الأخبار إلا أننا تسللنا من بيوتنا نستطلع الأمر، وانطلقنا كالعفاريت صوب مطار إنشاص وقبل أن نصل إليه وجدنا عشرات الجنود وهم يجرون فى الطرقات بشكل عشوائى وكأنهم يفرون من جهنم الحمراء، ويصرخون فى وجوهنا كى نعود أدراجنا إلى بيوتنا، سمعناهم وهم يقولون حين دلفوا للاختباء فى الحدائق التى تجاور «قصر الملك» الذى أصبح مقرا لقائد القوات الجوية : ضربونا وإحنا نايمين... ويبدو أن الضربة جاءت لنا بالفعل حين كانت مصر نائمة!! وحملنا الهزيمة فى قلوبنا الغضة فأورثتنا إحساسا بالانكسار وشعورا بالمهانة.. ظل هذا الإحساس مصاحبا لنا منطبعا فى نفوسنا إلى أن تجاوزنا مرحلة الطفولة ودخلنا إلى مرحلة الصِبا.

وفى القاهرة كانت المحطة الثانية من حياتى حيث انتقل أبى ـ رحمه الله ـ فى وظيفته من إنشاص إلى القاهرة، وفى شارع «طومان باى» بالزيتون كان بيتنا الذى وضعنا رحالنا فيه، وفى مدرستى الإعدادية تعرفت على مجموعة نقية من الأصدقاء كان منهم أسامة فرهود وحاتم عبد اللطيف وجرجس شكرى ومحمد عبد الخالق، ومع هؤلاء كان صديقى «جمال نجاتى» الذى كان يفوقنا علما وخلقا ومثابرة، ووصل تفوقه إلى أن أصبح بشكل دائم هو الأول على المدرسة بلا منافس.

كان جمال هو الابن الأكبر للصول «نجاتى» أحد أفراد قوات الصاعقة المصرية، وحين توثقت الصلات وأواصر الصداقة بينى وبينه كنت أذهب للمذاكرة معه فى بيته المتواضع الكائن بإحدى الحارات الضيقة المتفرعة من شارع جانبى متفرع بدوره من شارع «دار السعادة».. وفى صالة المنزل الصغير، كانت الحاجة «أم جمال» تحمل لنا أكواب الشاى وهى تتحدث معنا على سجيتها ثم تنهى حديثها معنا وتغادرنا وهى تدعو لنا بالنجاح والفلاح.

كنت أرى والده صاحب القوام القوى والسحنة النيلية السمراء وهو يختم صلاة العشاء ويكثر من الأدعية وهو يرفع يده للسماء، وحين كان يلهج لسانه بالدعاء كنت أسمعه وهو يقول لرب العزة فى خشوع وتضرع «اللهم انصرنا عليهم ورد لنا كرامتنا فأنت القادر ولا قادر إلا أنت».

ومرت سنوات قليلة ودخلنا إلى المدرسة الثانوية، وظل جمال صديقا أثيرا لديّ لا أغادره ولا يغادرنى، ورغم أنه دخل إلى مدرسة غير مدرستى إلا أننا كنا نلتقى دائما دون انقطاع، وكانت الزاوية الصغيرة المسماة «زاوية مركز الشباب» والكائنة بآخر شارع طومان باى تجمعنا وقت الصلاة وعند صلاة الجمعة حيث كنا نستمع فيها إلى خطبة «الشيخ فتحى» فنستزيد من علمه وتتحرك قلوبنا من أدعيته.

ونظرا لأن مدرسة جمال كانت قريبة من مدرستى فكنا قد اتفقنا على أن نلتقى بعد اليوم الدراسى لكى نعود إلى بيوتنا معا فى صُحبة طريق يومية.. وجاء اليوم المشهود.. يوم السادس من أكتوبر من عام ألف وتسعمائة ثلاثة وسبعين، ذلك اليوم الذى قفزنا فيه بخيالنا إلى عنان السماء وجرينا صوب بيوتنا نسابق الريح، فقد سمعنا فى الشارع صيحات الله أكبر ترتفع مدوية فى السماء ورأينا الدموع تنسكب من عيون الرجال والشباب فى فرحة أسطورية، كان جنودنا يعبرون بنا إلى نصر تاريخى، لم يكن العبور هو مجرد عبور حاجز رملى فقط ولكنه كان فى المقام الأول عبور حاجز نفسى آن به أن ينتهى الانكسار والإحباط والمهانة وأن تعود به العزة والكرامة.

وتعطلت المدارس فأخذَنا أبى لنكون فى فترة الحرب فى معية جدى لأمى رحمه الله فى قرية السعيدية بالشرقية حيث كان كبيرها وعمدتها.. وكان أن وضعت الحرب أوزارها وعادت لنا الروح ووقف المارد المصرى بقوة على قدميه وهو يصيح الله أكبر رافعا هامته أمام العالمين بعد أن وقع فى ظن الجميع أن مصر لفظت أنفاسها وخرجت من التاريخ.. وحين بدأت مباحثات «فك الاشتباك» عادت الدراسة إلى انتظامها فعدنا إلى القاهرة، وفى حارة صديقى جمال نجاتى وجدت الزينة تطوِّق بيته من كل جانب وسمعت الزغاريد وكأنها تُعبر عن فرحة لا تتكرر، فوقع فى ظنى أن والده عاد من الحرب فهرعت إلى منزله أقفز السلالم قفز الريح، وأمام «بسطة السلم» المواجهة لشقته رأيت جمعا من الناس يشربون الشربات ورأيت الحاجة «أم جمال» تلك الأم الطيبة الوادعة وهى تجلس مع جمع من النسوة وكان وجهها مشرقا منيرا إلا أنه بدا وكأنه يحمل فى قسماته طرفا من الفرحة وطرفا من الحزن المستتر والشجن الخفى، وحين رآنى جمال احتضننى بقوة وناولنى كوب الشربات... سألته وأنا أعب الشربات عبا : أين عم نجاتى فأخذنى جمال من ذراعى ونزل بى إلى الشارع حيث انتحى بى جانبا وقال لى وقد اغرورقت عيناه بالدموع : هو الآن فى أعلى فرحته وفى أعلى عليين... يعز على َّ أن فارقنا ولكن الله اختاره لكى يكون شهيدا.. وأذكر أننى قلت لجمال وأنا لا أكاد أصدق: كيف هذا ؟ فقال اسمع هذه القصة: كان أبى من أولئك الجنود البواسل الذين عبروا قبل العبور ليعبِّدوا الطريق للجحافل الظمآنة للعبور والنصر، وحين تسلل هو وفرقته اشتبكوا مع كتيبة إسرائيلية وكان القتال عنيفا.. كانت مهمة الكتيبة الإسرائيلية هى عرقلة أى عبور لجنودنا وقصف دباباتنا بصواريخهم، وكان القضاء على هذه الكتيبة أمرا لازما لكى يتم العبور دون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة، وعندما استعصت الكتيبة الإسرائيلية وتمنعت وتترست بحصونها كان لابد من أن يكون هناك عمل فدائى، وقد كان أبى هو صاحب هذا العمل دمر الكتيبة الإسرائيلية واستشهد.

وبعد سنوات طويلة كنت فى لقاء مع صديقى أسامة فرهود فى منطقة الزيتون وبعد أن انتهى اللقاء ذهبت إلى شارع طومان باى فمررت على مسجد «الشهيد عاطف السادات» ذلك المسجد الذى كان فى صبانا زاوية مركز شباب طومان باى ثم دلفت إلى شارع دار السعادة أسترجع ذكريات مضت وأتذكر أياما جمعتنا وصديقى جمال فى هذا المكان وأياما فرقتنا وإذ نظرت إلى الحارة التى كان يسكن فيها جمال وجدت لافتة مكتوبا عليها «حارة الشهيد نجاتى