رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قرية المائة

رحاب لؤى
رحاب لؤى

كانت قدما داود العاريتان، تُحاولان اللحاق بأخفاف سرب الجِمال الجامحة، نحو أرض جابر، تحمل على ظهورها كميات ضخمة من قش الأرز، ترمح بخفة وسهولة، خفافها لينة ورحبة، ما إن تلمس الأرض حتى تتسع بالقدر المطلوب، فلا تغوص، ولا تزول. ظلّ داود يتعثر داخل جلباب أخيه الأكبر، يلفح وجهه الهواء البارد، وتزكمه الأتربة المتصاعدة، يخشى السقوط فى الترعة التى يمشى على حافتها، عن يمينه، ويرعبه السقوط أسفل أخفاف الجِمال عن يساره، فالتزم ذلك المسار الضيق بصعوبة، حيث واصل الدحرجة حينًا، والهرولة حينًا.

ما إن وصلت إلى الأرض أخيرًا، حتى استقبلها جابر مهللًا: «يا مرحبا بالزوامل شيالات المحامل».

كان موسم زراعة البرسيم على الأبواب قارب سبتمبر على الانتهاء، ولم يعد ثمة وقت، إذا تأخروا فسوف تموت البادرات ويتأخر الحش، هكذا انخرط جابر بمساعدة أبنائه فى العمل، لم يكن يوقفهم سوى الألم المتصاعد من تلك الشقوق التى تركها برد سبتمبر فى أقدامهم، كانت الجروح الصغيرة تستحيل نارًا حارقة مع الوقت.

ينثرون قش الأرز فى أنحاء الأرض، تلك هى المهمة الأسهل بالنسبة لداود، هكذا يساوى الأعواد الجافة فوق سطح التربة، تخدشه حين يسير فوقها، تاركة خرائط على جلده، فلا يعيرها انتباهًا، يكاد يبكى حين يصير الجرح جديَّا، لكنه يتماسك، فالرجال لا يبكون.

انتهى دوره أخيرًا، وجاء دور الثيران، عند هذه النقطة أطلق زفرة الخلاص.

الآن سوف يحصل على مكافأته، حيث يجلس فوق دكة خشبية، تعلو المحراث، فيما تجره الثيران فى أنحاء الأرض. يتأمل مشهد القش الثائر، كيف يهدأ فجأة تحت أقدام الحيوانات التى تُغطى عيونها، فلا تنتبه لسنون المحراث المحكمة فى الخلف، وهى تُسوّى الأرض، فى انتظار رَيّتين اثنتين، يختفى أثر القش من بعدهما.

يوم شاق، لم يكن أشق مه سوى هذه اللحظة، اقترب المغرب وانتهى العمل، وصار لا بد من العودة إلى البيت، لو أن ثمة مكانًا آخر يمكن الذهاب إليه، لطار كل منهم إلى هناك، لكن لا مفر، هكذا ساروا جميعًا، يقدم أحدهم قدمًا، ويؤخر الثانية، بينما صدورهم ضيقة حرجة، كأنما تصعّد إلى السماء شيئًا فشيئًا فلا تصل.

كان أسوأ ما يمكن أن تُعده زوجة عوض فى مطبخها على الإطلاق هو الدجاج، أخبرتها جارتها أنها لا تُحسن الذبح، لذا تستغرق دجاجتها وقتًا طويلًا فى «الفرفرة» تتشرب دماءها، فيصير مذاقُها ورائحتها مشبعان بالزفارة، رغم كل محاولاتها لتنظيفها.

تململت حُسنية فى وقفتها، على قدميها المتورمتين، فراحت تستبدل قدمًا بأخرى، لكن آلام قدميها كانت أقل ما يشغلها، كما لم تَعنِ لها الدموع المتساقطة من عينيها بسبب البصل الذى يلوث يديها، أو حتى رائحة الزفارة الشديدة، شيئًا. أنهت خرط البصل وقطعت دجاجتها، وأشبعت الصينية بسائل الطماطم أحمر اللون، ثم وقفت تعصر مُخها، لتتذكر إن كانت قد وضعت الملح، أم لا.

«لماذا لا تُشبه هذه المرة كل المرات السابقة؟»، قالتها فى نفسها بينما راحت تمشى ببطء صوب الفرن الموقد كى تُسوى صينية الدجاج بالبطاطس، دفعتها إلى الداخل، كأنما تتخلص من جرم ارتكبته للتو.

مظهر بطنها هذه المرة مختلف للغاية، كذلك قدرتها على الحركة، قالت لها إحدى الجارات إن جنينها قد يكون أنثى. «البنت بتحلّى أمها، وإنتِ احلوّيتِ فى الحمل دا يا حسنية»، لكنها ضحكت ساخرة وقالت لها بثقة شديدة: «بطنى ما بتشيلش غير رجالة»، لم تكن ملاحظة جارتها الوحيدة من نوعها، فقد أمطرتها التعليقات من نساء القرية بأنها صارت مختلفة جدًا هذه المرة، لكن ما كانت تعرفه حقَّا أن هذا الحمل هو الأصعب والأكثر ثقلًا بين كل المرات.

لم تكن ولادتها المتأخرة تُضايقها، بقدر القلق الذى راح يعتصر قلبها بشأن الأيام القليلة التالية، وما قد يحيق بها، وبواحد معين من أهل القرية، كان هذا هو همها الأكبر

«مفيش واحدة بتقعد كل دا فى العاشر، هتموتى لو ماولدتيش».

قالتها لها الداية قبل يومين، حيث تخطت حسنية ثلاثة أسابيع عقب تمام شهرها التاسع، كانت مرتعبة، فهى تعلم جيدًا أنه لا امرأة تنجو بجنين يرفض النزول.

قضت الليل تحقن قلبها الأفكار السوداء، بينما كان شخير عوض النائم إلى جوارها يملأ الأرجاء، وعواء الذئاب فى الخارج يزيد الأجواء كآبة.

لم يكد شيخ الجامع القريب يؤذن لصلاة الفجر، حتى سارعت للقيام، كأنه إذن رسمىّ، أنها لم تُعد مُضطرة للبقاء فى السرير، لم تكن قادرة على الحركة ولو خطوة واحدة، لكنها كانت مُضطرة لبدء مهام دارها، فلا أحد قد ينوب عنها، كما أن «الداية» أخبرتها أن الحركة الكثيرة كفيلة بتحقيق المراد.

راحت حسنية تبتلع كل الوصفات التى نُصحت بها، نصف كيلو تقريبًا من التمر، والكثير من زيت الخروع والقرفة، والأعشاب، التى أوصى بها عطّار القرية، من زنجبيل، ومريمية، ومغلى بقدونس. لم يحدث هذا كله نتيجة تذكُّر، اللهم إلا مزيدًا من التقلصات المؤلمة فى أنحاء بطنها.

صحيح أن تلك الولادة، هى الأصعب والأطول على الإطلاق، كانت قد فقدت الأمل تقريبًا فى أن ترى مولودها، إلا أن الأكثر قسوة بالنسبة لها كانت ابتسامات زوجها الساخرة، عوض الذى كان يضحك من قبله، فى كل مرة تُبدى قلقها من جنين لا يأتى، مؤكدًا «فيها إيه، تروحى إنتِ ييجى غيرك، المهم هاتيلى الواد بالسلامة»، لم تكن جملته تلك تريحها؛ فهى تعلم أنه لم يكن يمازحها، لكنه فى المرة الأخيرة قبل يومين لم يضحك ككل مرة حين شكت له طول الحمل وعذابه، فقط قال لها بجدية: «الحمير بس اللى بتولد بعد العاشر».

كانت حسنية؛ وهى امرأة قمحية، مجعدة الشعر، متوسطة الطول، تمتلك أنفًا مدببًا، تكره الولادة وتخشى من علاماتها، أما الآن، فقد أضحت أمنية عزيزة المنال، التورم ينتشر فى أنحاء جسدها بسرعة فيما يزداد شعورها أنها ليست بخير: «لو مُت العيال دول هيتربوا إزاى؟!».

ثمانية أبناء من عوض، ظلت عقب ولادة آخرهم سبع سنوات بلا إنجاب، ظنت أن هذا يكفى، لكن تقريع عوض المتواصل لها بأنها باتت عاقرًا ووصفه لها بـ«الأرض البُور» لم يكن سوى دافع لأن تحمل من جديد. لم تكن تعرف كيف، وقد صار أكبر أبنائها رجلًا، فيما بلغ أكثرهم، لكنها راحت تدعو الله بأن يرزقها طفلًا آخر.

كانت على وشك الانتحاب بشأن مستقبلها الغامض، وجسدها الذى لم تعد تشعر بأبعاده، فضلًا عن آلام بطنها التى لا تبارحها. لم ينتزعها من أفكارها المخيفة سوى شلال الماء الدافئ الذى انهمر بين قدميها فجأة فاستحال خوفها حبورًا، وراحت تصرخ بهستريا لا تناسب خبرتها فى الولادات السابقة، صرخات كانت أقرب للسعادة منها للألم.

عاجلها ابنها الأكبر ليرى ما هنالك، ظن أن مكروهًا حاق بها، فأخبرته: «هات الداية بسرعة».

من رواية «قرية المائة»