رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حصدت "البوكر" ونشرت بالواشنطن بوست.. "كايروس" قصة حب بين جيلين وبين ألمانيتين

جيني إربينبيك
جيني إربينبيك

فازت رواية "كايروس" بجائزة البوكر العالمية للعام 2024، الرواية من تأليف"جيني إربينبيك. وترجمها من الألمانية إلى الإنجليزية مايكل هوفمان" وتنشر الــ “الدستور” مراجعة للرواية نشرت فى صحيفة"واشنطن بوست"، بقلم روبرت روبسام.

الحياة في الدول البوليسية وتجارب اللاجئين في برلين المعاصرة

 عبر خمسة روايات، وكتاب من القصص وآخر من المقالات، تستكشفت الكاتبة الألمانية العظيمة جيني إربينبك الحياة في الدول البوليسية، وتجارب اللاجئين في برلين المعاصرة، وكيف يمكن للعديد من الحيوات أن تتشابك في طبقات على قطعة أرض واحدة. تناضل الكاتبة فى جميع كتبها مع التساؤل عن الشعور بالعيش عبر التاريخ.

لقد عاشت إربينبك الكثير من تلك التجارب بنفسها، فقد ولدت إربينبك في ألمانيا الشرقية عام 1967، بعد ست سنوات من بدء بناء جدار برلين، وبإمكان المرء تخيّل طفولة رمادية في عالم باهت تتنصت فيه آذان الشرطة السرية (ستازي) على الخرسانة المتداعية.

 لكن إربينبك تتذكر شيئًا مختلفًا، "لم تكن معجزة ولا رعبًا بالنسبة لنا"، كتبت في مقال عام 2016 ترجمه كورت بيلز "كنا العالم اليومي، وفي ذلك العالم اليومي كنا بين بعضنا البعض".

ومع ذلك، عندما سقط الجدار في عام 1989، وابتلعت ألمانيا الغربية جارتها الشرقية، أبتُلع أيضًا ذلك العالم اليومي، وفى نفس المقال كتبت إربينبك "لم تُمنح الحرية بحرية، بل جاءت بثمن، والثمن كان حياتي بالكامل حتى تلك اللحظة".

 في روايتها الجديدة المراوغة والواثقة "كايْروس" التي ترجمها مايكل هوفمان، تحاول إربينبك إحياء كل التشابك، والروائح، والتفاصيل الصغيرة غير المحلولة التي كانت تشكل تلك الحياة. 

"كايروس" إله اللحظات المواتية في الأساطير اليونانية

"كايروس" الرواية التى تحمل اسم إله اللحظات المواتية في الأساطير اليونانية، تبدأ في عصرنا الحالي تقريبًا، مع امرأة ألمانية تدعى "كاثرينا" تستلم صندوقين كبيرين من الكرتون من كاتب عجوز توفي مؤخرًا ويدعى "هانز"، تسجل الصناديق، بتفاصيل دقيقة تكاد تكون بيروقراطية، قصة الحب التي تشاركاها خلال السنوات الأخيرة من وجود ألمانيا الشرقية. قد يُغرق كاتب آخر قصتهما في أمور ذات أهمية تاريخية خطيرة.

 كم تعتمد الحياة على اغتنام الفرص؟

 لكن إربينبك تركز على سؤال التوقيت "إذًا، هل كانت لحظة مواتية؟" هكذا تتساءل كاثرينا عندما التقت هانز لأول مرة وهي في التاسعة عشرة من عمرها. وهو ما يعني: كم تعتمد الحياة على اغتنام الفرص، سواء كان ذلك اللحاق بالحافلة الصحيحة أو تقبيل الشخص المناسب في لحظة وصولهم؟ على كاثرينا أن تنقب في أوراقهم لتكتشف الإجابة.

التقى الاثنان خلال عاصفة مطرية في صيف عام 1986، كان هانز، في منتصف العمر ومتزوج، متجهًا إلى المركز الثقافي المجري ليبحث عن كتاب للفيلسوف جورجي لوكاش. بينما كانت كاثرينا، المتدربة في دار نشر حكومية، قد سئمت من أنتظار عشيقها الغائب في المنزل، التقيا في الحافلة، وانتظرا تحت قضبان القطار حتى يتوقف المطر، وتناولا القهوة وتبادلا أغنيات الطفولة، وخططا للإفتراق. ومع ذلك، عندما خرجا إلى الشارع لم يستطيعا تحمل الفراق، فذهبا معًا إلى منزله.

من هناك تنمو علاقة لا يستطيعان الفكاك منها. الفجوة بينهما شاسعة، فهو متزوج وله ابن وأيضا يكبرها بما يكفي ليكون والدها، وأيضا كاثرينا هي ابنة ألمانيا الشرقية، ولدت في كيانها وتقاليدها. أما هانز فقد وُلد قبل الحرب العالمية الثانية، ونشأ في ريجا وبوزنان، وكان والده أستاذًا مكلفًا بـ"جرمنة" الشرق الذي تم غزوه حديثًا. كانت هي من شباب الرواد، وكان هو من شباب هتلر.

 بالنسبة لها، الواقع الاشتراكي كان أمرًا مفروغًا منه، ولكن بالنسبة له كان مصدرًا للصراع المستمر وإعادة التأكيد وإمكانية الخيانة الدائمة، والأسلوب"البارانويدي، المذعور" هذا سيهيمن في النهاية على علاقتهما. التوتر بينهما ليس فقط بين جيلين، بل بين ألمانيتين مختلفتين. 

الرواية كتبت كـ"كولاج" تدمج بين الفن والتاريخ والموسيقى

لحسن الحظ، لم تختزل إربينبك رومانسيتهم فى مجرد رمز، بل جعلت الماضي يبدو حيويًا ونابضًا بالحياة، حيث تسرد كل شيء بأسلوب فضفاض وسلس بزمن الحاضر، وغالبًا ما تدمج أفكار كاثرينا مع أفكار هانز، وتعرض حواراتهما كجمل طويلة غير منقطعة، مما يُبرز طابعها التعاوني.

تقرأ "كايروس" كثيرًا كأنها كولاج، تدمج بين الفن والتاريخ والموسيقى. فمثلا، الليلة الأولى للزوجين معًا تُسرد على أنغام "قداس الموتى" لموتسارت، بحيث يتزامن كل إيقاع من نشوتهم الجنسية مع حركة موسيقية، حيث تتداخل أصواتهم مع أصوات الموتى الذين يصرخون طلبًا للخلاص، والرحمة، والنجاة: "أنقذني، أنقذني، نم معي" كما تقول. 

تركز إربينبك بشكل خاص على الطبوغرافيا الثقافية المنسية لبرلين الشرقية القديمة، من مقهى أركادي، ومطعم جانيميد، إلى قصر الجمهورية ومكاتب خدمة إذاعة برلين الشرقية. يتزامن إيقاع علاقة الزوجين مع إيقاع التاريخ، فمثلا تسرد توفير شقة خاصة جنبًا إلى جنب مع إعادة إعمار الكنيسة الجديدة التاريخية، وكذلك مع هدم الملجأ الذي انتحر فيه أدولف هتلر وجوزيف جوبلز.

وضع الزمن الشخصي والتاريخي على مسارات متوازية تقريبًا

تقدم إربينبك الأمور الحميمية والمهمة بتركيز متساوٍ، بحيث يسير الزمن الشخصي والتاريخي على مسارات متوازية تقريبًا، حتى لا يكون لهما خيار سوى التقاطع. فبجانب عالمهم، هناك عالم آخر لا يمكن الوصول إليه إلا بإذن مناسب. عندما تزور كاثرينا الساذجة جدتها في كولونيا، تجد نفسها مضطربة بسبب القمامة والتشرد والاستهلاكية، ولكنها أيضًا مذهولة بتقلبات الأسعار والطريقة التي يبدو بها حتى الجنس مُتاجَرًا به في الغرب. تشعر بالارتياح للعودة إلى الشرق الذي تعرفه جيدًا.

عندما ينتهي الانقسام، يُغمر عالم كاثرينا الصغير والمغلق بالعالم الأكبر والأكثر حرية وفوضى في الغرب. تستغرق كاثرينا ثلاثة أسابيع لتسير من خلال الثغرات في جدار برلين، وذلك فقط لأن هانز يحثها على ذلك. أعتمت هذه اللحظة ذات الأهمية التاريخية العظيمة بسبب اضطراب حياتها الخاصة. فقد تحولت علاقتها الرقيقة مع هانز إلى علاقة تتخذ من المراقبة والاستجواب نهجًا. فالثورة المفاجئة خارجًا لا تعكس الانحلال الطويل والبطيء لحياتهما معًا. تؤدي الوحدة الألمانية الكبيرة إلى انهيار الزوجين ببطء نسبيًا ولكن بشكل عميق.

لا أعتقد أن إربينبك تسعى إلى تنقية الحياة في دولة استبدادية، في الجزء الأخير من الرواية، تكتشف كاثرينا شيئًا عن هانز يطرح استفسارًا حول ذاته بأكملها، والدور السياسي الذي أداه، تقدم المؤلفة ببساطة حياتها وملايين الحيوات مثلها، والتي تكوَّنت وازدهرت في دولة ومجتمع لم يعد موجودًا.

 وقد كتبت في مقال عام 2016" بشكل غريب بما فيه الكفاية. ليس لها علاقة بمسألة ما إذا كان الماضي الذي يُستبدل الآن كان ممتعًا أم مؤلمًا، طيب أم شريرًا، صادقًا أم كاذبًا. كان الأمر ببساطة مسألة وقت، وقت مر بالفعل بهذه الطريقة التي كنت أعرفها". من خلال "كايْروس"، جعلت إربينبك ذلك الماضي يبدو وكأنه الحاضر، عندما لا يزال التاريخ شيء غير محسوم وحياتك ما زالت شيئًا متوقفًا على الصدفة.