رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تنحّى الحكام

 التنحى تحمل معنى الترك والابتعاد، وبالنسبة للزعماء يحمل التنحى معنى ترك السلطة. وهذا التنحى حدث فى مصر فى أربع مناسبات. ذكرها لنا التاريخ المصرى، بلا مواربة. 
ويمكن أن يكون التنحى جبرًا أو طواعية. الجبر كان فى ثلاث حالات، والتنحى الطوعى فى حالة واحدة. 
كان أول مَن أُجبر على التنحى فى التاريخ المصرى هو الخديو عباس الثاني. وكان آخر خديو فى مصر، كان صعوده للحكم روتينيًا، بحكم الوراثة، وكان أصغر من السن القانونية للرشد، وتم احتساب عمره بالتاريخ الهجرى ليكتمل له سن الرشد. كان يناصب الإنجليز العداء، كانت الحالة الدولية تنذر بخطر قريب ثم ما لبثت الحرب العظمى أن اشتعلت نارها، فلما كان يوم 18 ديسمبر من سنة 1914 أعلنت الحماية البريطانية على مصر، وفى اليوم التالى 19 ديسمبر1914 أعلن بلاغ فى أنحاء مصر، جاء فيه أن وزير الخارجية البريطانية يعلن عزل سموه من منصب الخديو وأن هذا المنصب السامى قد تم عرضه مع لقب سلطان مصر، على سمو الأمير حسين كامل أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد على فقبله، ولكن عباس الثانى تنازل فعليا عن الحكم فى ٦ مايو سنة ١٩٣١. أى بعد 18 عاما من التنحي، لصالح ابن أخيه الملك فؤاد بموجب وثيقة جاء فيها «إنى موقن بأنى خدمت بلادى بأمانة وإخلاص وأنى كرست لها مدى ثلاث وعشرين سنة كل قواى وخير أيام حياتي، ورغبة منى فى تحديد موقفى حيال نظام مصر السياسى وتأكيد إخلاصى نحو ذات ملكها المعظم، فإنى أعلن اتباعى للدستور المقرر بالأمر الملكي، وعلى وجه الخصوص أعلن احترامى للقانون الخاص بإقرار تصفية أملاكي، ولما كنت أقر لحضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول بن إسماعيل بأنه ملك مصر الشرعي، فإنى أعلن بهذا تنازلى عن كل دعوة على عرش مصر، كما أعلن تنازلى عن كل مطالبة ناشئة عن أنى كنت خديو لمصر». حسب ما جاء بمذكرات إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء فى عهد الملك فؤاد.
وظلت محبته فى قلوب المصريين، آملين فى عودته، لذلك اعتاد أهالى القاهرة ترديد هتافهم الشهير «الله حى... عباس جاى»، فى المظاهرات الوطنية ما بين عامى 1914 و1931.
ويقال إن تنازله عن الحكم كان بمقابل أن تدفع له الحكومة المصرية مبلغ 30 ألف جنيه سنويا طوال حياته. 
وبعد 20عامًا من تنازل الخديو عباس حلمى عن العرش لصالح الملك فؤاد، أجبر ابنه الملك فاروق الأول. على التنازل عن الحكم فى يوليو عام 1952. 
استمرت فترة حكم الملك فاروق منذ عام 1937 وحتى عام 1952، مما يعنى أنها بلغت قرابة 15 عامًا كان الملك فاروق خلالها ملكا لمصر والسودان. وشهدت مصر الكثير من الإنجازات خلال هذه الفترة حتى انتهت فترة حكم الملك فاروق، وأصبح الملك فاروق على سُدّة الحكم بعد أبيه الملك فؤاد الأول.
وفى عهد الملك فاروق تم تأسيس الكلية الجوية، كما تم تأسيس الكلية البحرية خلال فترة حكمه، وذلك إلى جانب تأسيس ما أطلق عليه اسم الجيش المرابط لمساعدة الجيش المصرى فى الدفاع عن مصر. وفى عهده ألغيت الامتيازات الأجنبية فى مصر عام 1937.
أما عن تنحى الملك فاروق، فقد تم بإرادته بموجب وثيقة قانونية، صاغها المستشار السنهورى رئيس مجلس الدولة فى ذلك الوقت، وحملها على ماهر باشا رئيس الوزراء، فى صباح يوم 26 يوليو 1952 لقصر رأس التين بالإسكندرية، وتحدث إلى الملك فاروق عن رغبة الجيش والشعب المصرى معًا إلى تنازل الملك عن العرش، وعرض على الملك فاروق وثيقة تنازله عن العرش لابنه الأمير أحمد فؤاد، وكانت تلك اللحظة التاريخية بتاريخ ٤ ذى القعدة ١٣٧١ هجرية الموافق 26 يوليو 1952 ميلادية بالأمر الملكى رقم 65 لسنة 1952 بقصر رأس التين.
وكان الملك فاروق قد طلب من على ماهر باشا، عندما التقى به فى صباح ذلك اليوم، أن يحافظ على كرامته فى وثيقة التنازل عن العرش، فقام على ماهر باشا بطمأنة الملك فاروق، ذاكرًا له أن تكون الوثيقة على غرار الوثيقة التى تنازل بها ملك بلجيكا عن عرشه، وعلى إثر ذلك اتصل على ماهر باشا رئيس مجلس وزراء مصر بالدكتور عبد الرزاق السنهوري، طالبًا منه تحرير وثيقة التنازل عن عرش مصر، فأعدت الوثيقة وقبل عرضها على مجلس الوزراء عرضت على اللواء أركان حرب محمد نجيب فوافق عليها.
وكان نص الوثيقة كالتالى: «نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان، لما كنا نطلب الخير دائمًا لأمتنا ونبتغى سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة فى تجنيب البلاد المصاعب التى تواجهها فى هذه الظروف الدقيقة، ونزولًا على إرادة الشعب، قررنا النزول عن العرش لولى عهدنا الأمير أحمد فؤاد، وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه صدر بقصر رأس التين فى 4 ذى القعدة 1371 هجرية الموافق 26 يوليو 1952 ميلادى».
حمل الوثيقة المستشار سليمان حافظ إلى الملك فاروق بقصر رأس التين، وقرأها أكثر من مرة، وطلب إضافة كلمة «وإرادتنا» عقب عبارة «ونزولًا على إرادة الشعب»، لكن المستشار سليمان حافظ رفض تلك الإضافة، وأخبر الملك أن صياغة الوثيقة فى صورة أمر ملكى تحمل ذات هذا المعنى، وأنه لا داعى لتكرارها، كما أخبر جلالته، أن تلك الصياغة تمت بصعوبة كبيرة على هذا النحو، ولا تسمح بإدخال أى تعديل يطرأ عليها بأى شكل، فغضب الملك فاروق وقتها، وكان فى حالة سيئة، ولم يكمل النقاش مرة أخرى، ووقع بعصبية، ولكن المستشار السنهوري، لم يعجبه التوقيع، فطلب من جلالته التوقيع مرة أخرى، وكان هذا يدل على ما يتمتع به الرجل من قوة أعصاب ودقة متناهية. وهو ما يفسر وجود توقيعين للملك فاروق على الوثيقة. 
وكان الملك فاروق قد بدأ بالفعل يستعد لمغادرة البلاد بحرًا على متن يخت «المحروسة» قبل الساعة السادسة من يوم 26 يوليو 1952.
فى المقال القادم نتناول تنحى الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس مبارك.