رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كراكيب

من فترة طويلة لم أدخل بلكونة شقتي، فتحت باب الشرفة، فوجئت بكمية من الأشياء القديمة والكراكيب وقد ملأت البلكونة، أغلقتها وعدت إلى مكتبي، ومعى العديد من الكراكيب التي تداعت إلى أفكاري. 
الكراكيب في اللغة والمعاجم هي: أشياء قديمة متنوعة من أثاث البيت، غالبًا لا تكون ذات قيمة: ويقال: كان المكان مزدحمًا بالكراكيب. كركبَ يكركب، كَرْكَبةً، فهو كَرْكِب، والمفعول مُكَرْكَب. كركب الشّخصُ: أحدث ضجّة وجَلَبة، أو شعر بكركبة شديدة في معدته. وكركب الحجرةَ: أي أفسد نظامَها ولخبطها.

كراكيب: فيلم كوميدي عرض في فبراير 1984، من تأليف بهجت قمر، وبطلاه صلاح السعدني وآثار الحكيم. 
واكتشفت أننا نعيش وسط الكراكيب التي تشاركنا في حياتنا وأفكارنا، ولا نستطيع التخلص منها، ثلاجات قديمة وأجهزة تليفزيون عفا عليها الزمن، أجهزة راديو كهربائية وترانزستور، ودفايات وبقايا سباكة وحوامل تكييف حديدية، ولعب أطفال لكل الأعمار، وكميات من القطع الحديدية ومسامير قديمة وزجاجات مرطبات فارغة وبلاستيكية، وجرادل ونملية لا لزوم لها. كرتونة مليئة بالأحذية القديمة والتالفة بأنواعها رجالي وحريمي وبناتي وأطفال. ألقيت نظرة عليها وتذكرت حذاء من الشمواه اشتريته لأبني عندما كان صغيرا، اشتريته من محل في باب اللوق، كانت منه فردة واحدة فقط.
ولما دخلت مكتبي اكتشفت أنني غارق في كراكيب الكتب، بعضها لم أقرأه، ولكن شهوة شرائها كانت طاغية، الآلاف منها أصبحت عبئا ثقيلا، لا لزوم له، ولا أعلم كيف سيتخلص ورثتي منها فيما بعد.
حتى درج مكتبي مملوء بأقلام حبر قديمة لم أجد لها أحبارا ولم أعد أستعملها، وأقلام من الحبر الجاف وأقلام ذاتية التحبير، أستخدمها أحيانا في كتابة أرقام التليفونات وعناوين المكتبات في أوراق، وكنت ألقيها في مكتبي. مئات الأوراق تحمل أسماء أصدقاء، لكل ورقة فيها اسم صديق، أو رقم تليفون، لكل ورقة قصة ومناسبة تصلح لكتاب مسلٍ وطريف. وأجندات فيها أرقام تليفونات أرضية، وأرقام لأدباء صاروا كبارا من الصعب الاتصال بهم، وقتها كان التليفون الأرضي هو السبيل الوحيد للتواصل، مع طابع البريد والخطابات المكتوبة. عشرات النصوص مكتوبة في أوراق ما زلت أحتفظ بها، أفكار كتب ومسودات تحث على الضحك والسخرية في المحاولات الأولى للكتابة. ولكنها أعانتني كثيرا في الكتب التي نشرتها. أرشيف صحفي كامل يحتوي على قصاصات تشمل كل أحداث ووقائع الجماعات الإرهابية منذ عام 1981 وحتى محاولة اغتيال مبارك في 1995. لم أعد في حاجة إليه، بعد أن نشرت كتبي التي تتحدث عن تلك المرحلة، وصارت المعلومات الموجودة في الأرشيف موثقة في كتب.

أما كراكيب الملابس وبقاياها وما ضاق منها، وما اشتريته ولم ألبسه لاختلاف الذوق، فقد يغريني صاحب محل بشراء قميص من نوع ولون ويعجبني، وما إن أعود إلى البيت وأعيد النظر فيه، فأرى أنه لا يناسبني، ولا يمكن إرجاعه لأنني اشتريته من القاهرة وبيتي في الصعيد. بدل كاملة ضاقت، لم تعد لائقة، وأخرى لم تعد مناسبة بسبب اختلاف الموديلات، ملابس عسكرية صيفية وشتوية تحمل ذكريات العمل. ورابطات عنق عريضة وفاقعة ألوانها. وبلوفرات صوف اشتريتها أيام الشباب، حمراء وزرقاء وملونة، لم تعد تناسبني الآن، كلها مكدسة في الدولاب، وقد فكرت في التخلص منها لجمعية من الجمعيات، وبقي جزء أفكر في إرساله مع بعض الملابس البلدية التي ضاقت بسبب الكرش.

أتذكر هذا المثل الذي ضربه أحد الفلاسفة لتلاميذه، عندما أحضر لهم جرة ووضع فيها بعض الحصى الغليظة حتى امتلأت، وقال لهم: هل امتلأت الجرة؟ فقالوا: نعم. فأحضر بعض الحصى الصغيرة ووضعها في الجرة، فامتلأت بها، وسألهم إن كانت قد امتلأت؟ فأخبروه بأنها امتلأت، فلما أحضر كمية من الرمال ووضعها في الجرة، قبلتها الجرة، وأصبحت ممتلئة.
وهكذا حياتنا وعقولنا وبيوتنا ومكاتبنا وصفحاتنا، أصبحت ممتلئة بأشياء كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وتشغلها، وتأخذ مساحات كبيرة من تفكيرنا وتزاحمنا في أماكننا. 

لقد امتلأت وأصبحت مشغولة، لدرجة لا يمكننا إضافة شيء إليها، وأصبحنا ننفر من الأفكار والموضوعات الجديدة ونراها بعقول متخمة بالأفكار البالية التي عفا عليها الزمن بظهور التليفون المحمول وجوجل والعصر الإلكتروني. ولا نقبلها.
أصبحت عقولنا مثل غرفة الروبابيكيا والأشياء القديمة التي يعز علينا أن نتخلص منها، ويشدنا إليها حنين واهٍ وضعيف، يسهل التخلص منه وإهماله.

آن الأوان لأن نحدد أولوياتنا وأفكارنا التي نحتاجها، وأن ندع تلك الأشياء التي لسنا في حاجة إليها. وأن نقوم بالأشياء التي تجعلنا نشعر بالاستمتاع أثناء قيامنا بها، وأن نرتبها وفق تقويم خاص بنا قبل أي شيء آخر.