رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدير مكتبة الإسكندرية أحمد زايد: التدين الشكلى القائم على الوصاية نزع من العقل المصرى حب الفن والجمال والفكر والتجديد

الدكتور أحمد زايد
الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية

وثّق الدكتور أحمد زايد، مدير مكتبة الإسكندرية، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة القاهرة، شهادته على الشخصية المصرية والعقل المصرى فى لحظته الراهنة، مشيرًا إلى أن الانفتاح الاقتصادى فى سبعينيات القرن الماضى قاد المجتمع للسعى وراء الربح السريع والتدين الشكلى والحداثة القشرية.

وأضاف، خلال حواره لبرنامج «الشاهد» مع الإعلامى الدكتور محمد الباز، المُذاع عبر فضائية «إكسترا نيوز»، أن التدين القائم على الوصاية والرقابة نزع من العقل المصرى حب الفن والفكر والرغبة فى التجديد.

■ ما الذى تغير فى الشخصية المصرية منذ بدايات بحثك ودراستك عام ١٩٧٢؟

- إذا رجعنا بالذاكرة إلى نهاية فترة الستينيات وقارنّا حالة المجتمع المصرى وقتها وحاليًا سنجد العديد من التغيرات طرأت على المجتمع المصرى، مثلما يقولون مياه كثيرة جرت فى النهر، وهذه المياه كانت متدفقة ومتزاحمة ومتناقضة.

رغم أن المجتمع المصرى دخل منظومة الحداثة منذ عصر محمد على، لكنها لم تكن وصلت إلى الريف بالشكل الكامل، على سبيل المثال القرية كان من الممكن أن توجد بها مدرسة واحدة ابتدائية، كما أن المستشفيات والوحدات الصحية كانت غير متوفرة مثل الوضع الحالى، والقرى كانت تعانى من الفقر الشديد.

المجتمع الآن شهد تغييرات كثيرة جدًا، ودخلنا فى عام ١٩٧٥ وبدأت فترة الانفتاح الاقتصادى، والمجتمع الذى كان منضبطًا من أعلى بشكل كبير جدًا بدأ يتفكك تدريجيًا، وبدأت تظهر الطموحات، والناس بدأت تجرى وراء الربح السريع والثروة والمكاسب.

وظلت هذه العملية مستمرة لفترة طويلة من الزمن ثم بعد ذلك دخلنا فى العديد من المتغيرات العالمية والتكنولوجية، حيث تغير العالم من حولنا وتطور التكنولوجيا كان متسارعًا، إضافة إلى التجارة والعولمة التى اكتسحت العالم كله وحدثت تدفقات كثيرة جدًا فكرية وتكنولوجية وتدفقات فى البشر والسلع والأموال، ولم يعد الزمان هو الزمان ولا البشر هم البشر.

هذا خلق تأثيرات كثيرة جدًا على المجتمع، والمجتمع فى ذلك الوقت كان متروكًا ولم تكن هناك وسائل ضبط، الناس تضبط حياتها بنفسها، صحيح هناك دولة ونظام لكن لا توجد منظومة ضبط قيمية.

هناك بعض الأمور بدأت تتغير بشكل سريع جدًا مرتبطة بالشخصية، على سبيل المثال علاقة المواطن المصرى بالأرض فى فترة السبعينيات وما قبلها كانت قوية جدًا ولا يخرج منها ويتمسك بها، لكن التغيرات التى حدثت حولت الأرض إلى سلعة. 

النقود أصبحت هى المسيطرة على العقل، والطموحات زادت بشكل كبير رغم ضعف الإمكانات، وعندما تزيد الطموحات مع ضعف الإمكانات يكون هناك خطر.

حين حدث الانفتاح سيطرت الثقافة الاستهلاكية على الناس، والهجرة لم تعد إلى القاهرة بل تعدتها، يغادر الفرد القرية إلى ليبيا أو العراق والخليج مباشرة دون أن يعبر حتى على القاهرة.

المجتمع المصرى انفتح على الإقليم بشكل رهيب جدًا، وبدأت ثقافات تأتى للمجتمع المصرى من الأقاليم المجاورة، حتى بعض الناس أطلقوا على أبنائهم أسماء رؤساء بعض الدول العربية.

أيضًا من ضمن التغييرات الكثيرة التى حدثت فى المجتمع المصرى ما يُطلق عليه «تمدد الحقل الدينى» فالحياة حقول، هناك حقل سياسى ودينى واقتصادى.

الحقل الدينى بدأ يسيطر على الحقول الأخرى خصوصًا مع ظهور الإعلام والناس الذين يتحدثون بشكل مختلف عن الدين.

أصبح هناك أشخاص مؤثرون جدًا من داخل وخارج مصر، وأسهم ذلك فى ظهور التدين الشكلى، التدين أصبح شكليًا فقط عن طريق ارتداء ملابس معينة، حيث ظهرت أشكال غريبة من التدين ومحاولات فرض الوصاية على الشعب المصرى.

بدأت تظهر أنماط من التدين غريبة على المجتمع المصرى مثل إطلاق اللحية أو ارتداء ملابس معينة، وأصبح الرياء فى التدين موجودًا بالإضافة إلى الوصاية.

الوصاية لم تعد تصدر من رجل الدين الذى يتكلم فى التليفزيون أو الإذاعة أو الجامع، بل من الذى يسمعه أيضًا، وتعددت الوصايات لدرجة أن الحقل الدينى أصبح مخيفًا وهذا أثر بشكل كبير على الفكر، ما أقصده ليس الدين فى حد ذاته إنما التدين الشكلى وما يرتبط به من وصاية ورقابة مستمرة وقهر أحيانًا.

أصبحت التفرقة بين من يعرف ومن لا يعرف ليست على أنه مثقف أم لا بل هو يعرف دينه أم لا، وأصبح التدين مصدرًا للقلق والخوف خصوصًا بين المثقفين والعقل المنتج للفكر خصوصًا مع ظهور بعض الأحداث التى ضاعفت هذا الخوف مثل اغتيال فرج فودة والاعتداء على نجيب محفوظ وغيرهما من الأحداث.

■ كيف أثرت الجماعات المتطرفة على بنية العقل المصرى؟

- الدين عند الشعب المصرى أمر مقدس منذ أيام الفراعنة، مصر قدمت إسهامات كثيرة جدًا فى الحضارة الإسلامية، والإنسان المصرى يميل إلى أن يكون متدينًا ومتسقًا مع نفسه، وتمدد الحقل الدينى أثر بشكل كبير على الإنسان المصرى.

كما أن البدائل الأخرى لم تكن موجودة بالشكل الكافى مثل التعليم، فالتدين القائم على الوصاية نزع من العقل المصرى والعربى الفن والميل إلى الجمال والفكر والرغبة فى التجديد.

كنت دائمًا أدخل قاعات التدريس، وأسأل الطلاب من يؤمن بالحسد؟ ولم ألتق أحدًا يؤمن بالحسد، وأنا لا أؤمن بالحسد فى حياتى.

الحسد موجود كطاقة نفسية عند الجميع فى العالم، عندما أنظر للإنسان وأرى شيئًا جميلًا فيه سأشعر بالرغبة فى الحصول على هذا الشىء الجميل.

وهناك فلاسفة قالوا إذا رأيت شيئًا جميلًا فى شخص ما فاسعَ لتحصل عليه باجتهادك، وأنا لا أؤمن أن البشر إذا نظروا إلىّ بحسد فمن الممكن أن أُصاب بالأذى.

ولاحظت أن زملائى ومعارفى ممن سافروا فى إعارات إلى دول الخليج وعادوا بعد سنين طويلة يحرصون على ادعاء الفقر وأن سنوات الغربة ذهبت هباءً، وهذا أمر يتعارض مع منطق التدين والآية التى تقول و«أما بنعمة ربك فحدث»، وكنت أمازحهم «طب محتاجين فلوس، أنا رحت إعارة قبلك ومعايا فلوس، وأحوّل الموضوع لتهريج».

أيضًا لدينا إسراف شديد فى مسألة الفتوى، والشيخ محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر الشريف السابق رحمه الله، سأله أحد الأشخاص هل السجائر حلال أم حرام؟ فرد بأنها مكروهة وليست حرامًا، فعارضه الطالب بأنها حرام وتسبب ضررًا، فغضب من الرد، وقال نفرض أن هناك رجل أعمال وخسر أموالًا كثيرة، وأخذ سيجارة ليهدئ من غضبه، أرد عليه وأقوله حرام، وهذا الفرق بين المستويين من التدين، فهناك مستوى مفتوح لقبول الحياة الحديثة، والنمط الحديث من الحياة، وهناك الضد.

■ كيف ترى الإلحاح بالسؤال فى الفتوى.. وهل ترى أنه يدل على أن الشخصية المصرية تفقد الثقة فى نفسها؟

- لا نستطيع أن نقول إن الشخصية المصرية تفقد الثقة فى نفسها، وإنما نستطيع أن نقول إن هذا النمط من التدين والوعظ الدينى الذى عمل على عقول المصريين لفترة طويلة من الزمن امتدت أكثر من ٣٠ سنة، والتدفقات الهائلة جدًا من الفتاوى، والخلافات حول موضوعات حرام أم حلال، وفيما يقال بين أهل الوعظ حول الموضوعات المختلفة بما فيها فوائد البنوك والصحة والمرض، خلق عند الناس نوعًا من الشعور بالخطر والخوف من دخول النار.

والناس البسطاء يعتبرون أن ذلك حاجة حقيقية، لأن رجل الدين لم يقل لهم إن رحمة الله واسعة وإن الإنسان عندما يخطئ فإن الله تواب رحيم، حتى فى حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، طرح الرسول أشياء كثيرة للمراجعة وكانت هناك شفافية عالية جدًا، وهناك موضوعات عن بيت النبوة، بها صراحة ورحمة واسعة من الله، وقد تاب سبحانه وتعالى عمن تخلف عن الجهاد.

وهناك نصوص كاملة فى القرآن والحديث على أن رحمة الله واسعة، وأن الإنسان من الممكن أن يخطئ وهذا غير موجود فى الوعظ، وهو ما يخلق لدى الإنسان شعورًا بالحذر الشديد، ويفقده الثقة فى نفسه، كما تلعب التنشئة الدينية فى الأسرة دورًا أساسيًا فى ذلك.

هناك انفلات فى الفتوى، الكبير والصغير لا يترددون فى الإفتاء، حتى الناس فى المساجد يدلون بدلوهم فى المسائل الدينية ويصدرون أحكامًا بدخول النار أو الجنة.

الإسلام الدين الوحيد الذى ترك العبادة مفتوحة بين الإنسان وربه، ولذلك عندما كتب الغرب عن الإسلام قالوا لا توجد كنيسة فى الإسلام، أى أنه لا يوجد وسيط بين العبد وربه.

وهذا الشكل من الوعظ والتدين والوصاية خلق هذا الخوف وفقدان الثقة لدى الأشخاص، وفى إذاعة القرآن الكريم الناس يقلدون بعضهم فى الفتوى، ولاحظت أن الشيوخ يتجاوبون مع أسئلة من نوعية الزكاة على كميات صغيرة من الذهب، وفى رأيى أن الأولى بذلك هم أصحاب الملايين.

المصريون يطلبون الفتوى فى أشياء بسيطة فى حياتهم، وفى اعتقادى أن الإسلام لا يقبل هذا التشدد، ففيه قدر كبير من التسامح، وهذه الأشياء البسيطة لم تُناقش فى حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، كانت التفاصيل بسيطة، ولا بد من تنظيم الحياة وفقًا للدين ووفقًا لما يراه كل شخص.

■ كيف نعالج هذه العقلية لتكون متواكبة مع الحداثة بالجمهورية الجديدة؟

- معالجة العقلية حتى تكون الجمهورية الجديدة متواكبة مع الحداثة أمر صعب وتحتاج لوقت، والجمهورية الجديدة لا بد أن تكون لها وثيقة لتحدد نمط الدولة وماذا نقدم فيها.

قدمت عدة مقالات عن الدولة التنموية التشاركية، وأننا نتشارك النجاح ويكون المجتمع المدنى جزءًا من الجمهورية الجديدة، وجزء كامل يكون قائمًا على تكوين العقل المصرى على أسس تدفعه للعمل والابتكار والتعددية.

ما يدفع العقل للتطرف هو أن يكون العقل ضيقًا وفكره من الدين وما عداه ليس صحيحًا، ولذا لا بد من الانفتاح.

يجب أن نعلم الطفل التفكير والنقد فى سن صغيرة، وأن نجعله يتحدث، ونعلمه فكرة الرأى والرأى الآخر، بعض الدول تنظم ورشًا للأطفال عن العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والجغرافيا والاجتماع وعلم النفس، وتجعلهم يتفاعلون ويعرفون أن المسيحى جزء من الوطن، وأن اختلاف الدين لا يؤدى لمشكلة، وأن الفن جيد، وأن يستمعوا للقرآن ويتعلموا الفن وتكون لديهم قدرة على الإبداع.

لدينا مدارس ومدرسون جيدون ولكن المدرس تربى على طريقة معينة وينفذها، فإذا حضرت طالبة بدون حجاب يعيدها لمنزلها حتى ترتديه، ويتحدث مع طلابه فى الدين وهو ليس على المستوى الشخصى على نفس التدين، لذا لا بد من العناية بالمدرسين، وأن تكون مهنة محترمة ونقدرها حق قدرها.

ومنذ عام ١٩٧٥، وحتى وقتنا الحالى هناك رغبة كبيرة بين الآباء بإلحاق أبنائهم بوظائف تمنحهم السلطة ولا تجعلهم فى خدمة المواطنين. 

ونحتاج فى الفترة المقبلة فى الجمهورية الجديدة أن نركز على نوعية معينة من الشباب، والرئيس يهتم بهم ويوفر لهم فرص عمل، ولا بد من استقطاب المبتكرين فى مجال التكنولوجيا، هؤلاء الشباب يتم خطفهم من بعض الدول الغربية مثل أمريكا وكندا، أو بعض الدول العربية، ونحتاج أن نرعاهم رعاية فائقة وندفعهم للابتكار وأن نحدث نهضة فى المجتمع.

وهناك مجموعات كثيرة من الشباب لديهم رغبة فى أن يكونوا رواد أعمال، ويتوجب على القطاع الخاص أن يلعب دورًا مميزًا فى الفترة المقبلة تجاه الشباب ليمكنهم من هذا، فلدى الشباب قدرات متنوعة وعريضة ونحتاج توطينهم داخل مصر والاستفادة منهم، بدلًا من استقطابهم من الخارج.

والمقارنة بين الدول تكون على أساس المعرفة وأولها الابتكار واستخدام التقنية وإتاحة التعليم وجودته والبحث العلمى، واستخدام التقنية فى التجارة والمجالات الحياتية والتحول الرقمى، لأن المجتمعات النامية تعيش ظروفًا صعبة، لأن الصراعات فى التكنولوجيا تتزايد يوميًا.

■ هل الخطاب الدينى المعاصر يفتقد إلى الإنسانية؟

- حين أجريت تحليلًا للخطاب الدينى فى كتاب «صوت الإمام»، وركزت على ما يقوله الخطباء فى المساجد والكتب التى يأخذون عنها، وجدت الخطابات مليئة بإشارات إلى الماضى، وهو الفكر الموجود عند الإخوان وعند الجماعات المتطرفة، أى الرجوع للخلافة. والخطاب الدينى المعاصر يفتقد إلى الإنسانية، خطب المنابر تركز فى حديثها على عنصرين هما عذاب الآخرة والرجوع للماضى، الأمر الذى جعل الناس ينفرون من الحداثة. ولا يمكن الحديث عن الابتكار فى الوقت الذى نتناول فيه موضوعات مثل الحسد والخرافة، وطه حسين حاول إدخال التحديث فى الثقافة المصرية ولكن تمت محاربته. وأى خروج عن النص كانت تتم محاربته، واستنزفنا قشور الحداثة دون أن نصل لعقلها، نحن أمام حداثة قشرية لم تُبنَ على الحداثة الأصلية، ولم نملك عقلها، وقد تجد أستاذ جامعة ومعه دكتوراه وأستاذية ومع ذلك يؤمن بالسحر والحسد، ومن الممكن عندما تقابله مشكلة فيذهب للدجالين.

المجتمعات تُبنى على الإبداع والابتكار والأعمال القائمة على الرشد والعقلانية، وهذا يجعلنا ضد مجريات الحداثة التى لا تسير فى مجراها الطبيعى.

فكرة الشللية البيروقراطية جزء أساسى من الشكل التنظيمى للحداثة التى تقوم على الرشد والإعلام المنظم وعدم دخول الميول الشخصية، وأحيانًا يقولون إن البيروقراطية سيئة، لكنها ليست كذلك ولكننا نحن من أفسدناها.

المؤسسات إذا تمت إدارتها من خلال شِلل تصبح العلاقات فيها تشبه العلاقة بين السيد وأتباعه، ونجدها فى الجامعة وبعض الأساتذة يفرحون بسير الطلاب خلفهم ويكونون سعداء بأنهم من علموهم، وهذه العلاقة أشبه بعلاقة الولى والمريد، ويفكر الطالب فى تقليد أستاذه فيما بعد.