رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متاهة فى الأنفاق

إذا كنا نبحث عن تشبيه، فمن الممكن أن نستخدم المعركة الأمريكية لاحتلال جزيرة أوكيناوا اليابانية فى ربيع ١٩٤٥، لقد قاتل اليابانيون حينها من وسط أنفاق وتحصينات أرضية، وقُتل خمسون ألفًا من الأمريكيين، ونحو مائة ألف من المدنيين اليابانيين، من ناحية التحدى العسكرى، فإن غزة هى أوكيناوا، مضروبة فى عشرة أضعاف.

الحياة تحت الأرض فى غزة مختلفة عما فوقها، حماس تبقى رجالها فى الأنفاق، وترسل خلايا صغيرة تقوم بمهاجمة القوات الإسرائيلية من خلال إطلاق قذائف مضادة للدروع من مسافة قريبة. هذا هو التحدى الذى تتعامل معه القوات الإسرائيلية فى كل توغل داخل القطاع.

والحقيقة التى يعرفها الإسرائيليون أن كل ما عرفته الاستخبارات الإسرائيلية عن شبكة الأنفاق التى حفرتها حماس لا يرتقى إلى مدى معرفة ذكاء ودقة هذا المشروع، ربما هو المشروع الأكبر من الأنفاق من حيث نوعه فى العالم. 

الأنفاق فى شمال قطاع غزة، فى النقطة الأقرب إلى الحدود مع إسرائيل، هى أنفاق عميقة، وطويلة، وعسكرية، بصورة تختلف تمامًا، فى جوهرها، عمّا قدّرته الاستخبارات الإسرائيلية، لم يتخيل أحد فى تل أبيب أن هذا ما سيجدونه تحت الأرض فى غزة، ولهذا السبب يُعدّ إنشاء منطقة عازلة أمنية، تحبط عمل الأنفاق من اتجاه رفح، ضرورة إسرائيلية.

تتوزع الأنفاق على شبكتين منفصلتين: فهناك الشبكة الهائلة والمتفرعة، المكونة من أنفاق قتالية ضيقة، وهى تنتشر أساسًا فى الخطوط الدفاعية للحركة، وتحتوى على عدد لا نهائى من فتحات الدخول والخروج المنتشرة على الخطوط الدفاعية المتقدمة التابعة لـ«حماس»، وهى أنفاق ضيقة، بعرض جسد إنسان، وتؤدى إلى فتحات، بعضها مفتوح، وبعضها الآخر مسدود يمكن فتحه إذا ما دعت الحاجة. الهدف من هذه الشبكة يتمثل فى خوض القتال خلال اجتياح برى إسرائيلى.

خلف هذه الشبكة، هناك شبكة أُخرى، تتمثل فى مجمعات قيادية تقع على ارتفاعات مختلفة تحت الأرض، وهى بعمق عشرات الأمتار، بعضها تتوافر فيه مصاعد، وبعضها متصل بأنفاق واسعة، تتيح التحرك بواسطة سيارة.

فى أغلبية الحالات لا تكون الأنفاق القتالية متصلة بالمراكز القيادية التى أنشأتها «حماس» فى قلب المدينة، وفى جباليا والشجاعية، والتفسير هو أن حماس لم تتوقع أن تصل إسرائيل إلى هذه المجمعات القيادية، ولذا، فهى لم توصلها بالأنفاق القتالية، لكى يتم استخدامها كمسارات هرب للضباط إذا ما دعت الحاجة.

الجيش الإسرائيلى يقوم بتدمير الأنفاق القتالية فور اكتشافه لها. أمّا المجمعات القيادية فهو يرغب فى فحصها أولًا، وحتى الآن تم جمع معلومات استخباراتية لا حصر لها، إلى جانب أدلة مهمة تتعلق بالمخطوفين.

تدمير تلك الشبكة من الأنفاق يحتاج إلى وقت طويل، وكذلك يتطلب كميات هائلة من المتفجرات مع وجود نقص عالمى فى مادة الـTNT نتيجة الحرب فى أوكرانيا، وليس من السهل الحصول على الكميات المطلوبة بسرعة، مع حقيقة أن الصينيين هم أكبر منتجى هذه المادة، وهو ما دفع إسرائيل إلى التفكير فى هدم الأنفاق بالماء، حيث نُشر فى الإعلام الأجنبى أن عملية ضخ مياه البحر إلى جزء من الأنفاق بدأت، والحديث يدور عن أسابيع لحين الحصول على نتائج، وهناك من يتحدث عن أفكار مجنونة أخرى لعلاج الأنفاق، لم يتم الكشف عنها بعد. 

نقطة أُخرى طرحها ضابط إسرائيلى كبير يعرف قطاع غزة جيدًا، فى لقاء أجرته معه «يديعوت أحرونوت»، حيث ادعى الحاجة إلى عملية عسكرية فى منطقة لا يتحدث عنها أحد حتى الآن، وهى حدود رفح الفاصلة بين قطاع غزة ومصر، إذ إن حركة «حماس» أقامت تحت الأرض أنفاقًا تشبه الأوتوسترادات تمامًا، واستخدمتها فى عملية تسليحها ومراكمة قوتها خلال الأعوام الماضية، وذلك من خلال تهريب الوسائل القتالية. و«لن يمكننا إنهاء الحرب هذه دون معالجة هذه الأنفاق»، قال الضابط، «ولذا، علينا إدخال القوات، وتدمير الخط الأول من المنازل على الحدود (ناحية غزة)، ومعالجة مسألة الأنفاق وتدميرها تمامًا، وإلّا فإن حركة حماس ستعود لتسليح نفسها خلال وقت قصير».

فمتى ستُحسَم المعركة؟ 

لن يحدث هذا عندما تعلن إسرائيل أنها هزمت حركة «حماس»، بل عندما يظهر أن حماس غير قادرة على مواصلة القتال مجددًا، وعندما تتوقف عن التفكير فى العودة إلى حُكم القطاع.