رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الزواج والحداثة».. قصة تأثير الأفكار الاجتماعية على الأسرة المصرية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين

جريدة الدستور

يطرح كينيث «كونو»؛ أستاذ التاريخ بجامعة إلينوى فى أمريكا، فى كتابه «الزواج والحداثة.. الأسرة والأيديولوجيا والقانون بمصر فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين»، الذى صدر حديثًا بترجمة عربية أنجزتها سحر توفيق عن المركز القومى للترجمة، جملة من الأسئلة التى يهدف من خلال الإجابة عنها إلى الوقوف على طبيعة التغيرات بالمجتمع المصرى فى القرنين التاسع عشر والعشرين. 

تتضمن الأسئلة المطروحة؛ كيف جرى تشكيل الصورة المثالية للأسرة النووية فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟ وكيف أعيد تصور الأسرة والزواج؟ وما أثر التغيرات فى الإجراءات القانونية السابقة على تدوين قانون الأسرة بداية من ١٩٢٠؟ وما الذى تنطوى عليه أفكار المفكرين التجديديين مثل محمد عبده وقاسم أمين حول الأسرة والزواج؟ وما العوامل المتغيرة، سياسيًا واجتماعيًا وديموجرافيًا، والتى تركت آثارها على أنماط الزواج وتشكيل العائلة؟ 

أيديولوجيا العائلة المصرية

لا تسهم فقط الإجابات التى يصل إليها «كونو» عبر بحثه فى السجلات التاريخية المختلفة وكتابات المثقفين المعبرة عن تلك الفترة، فى إجلاء ما هو غامض حول أثر التوجهات الحداثية الناشئة آنذاك فى توجهات العائلة المصرية، وإنما تقود أيضًا إلى إدراك بعض من الأسس والأفكار القانونية والاجتماعية الخاصة بالمرأة التى ما زالت حاضرة ومؤثرة حتى اليوم، والتى ترجع جذورها إلى تلك الفترة الخصبة. 

يجادل «كونو» بأن بعض الأفكار المعبرة عن أيديولوجيا العائلة المصرية اليوم تمتد إلى أفكار المفكرين الحداثيين منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومن ذلك ما يتصل بتحديد أدوار المرأة من تدبير المنزل وتربية الأطفال، والتى ليست لها إلا علاقة محدودة بالمفاهيم الإسلامية للعصور السابقة. 

يقول «كونو»: عكست الدساتير الجمهورية المتعاقبة هذا التوتر فى تناول وضع النساء، وألزم دستور ٢٠١٤ الدولة بأن تكفل تحقيق المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبذلك حذفت عبارة ذكرت فى دستورى ١٩٧١ و٢٠١٢ كانت تجعل مساواة المرأة رهنًا بما تمليه الشريعة الإسلامية، لكن الدستور مر مرور الكرام على مسألة عدم المساواة فى قانون الأحوال الشخصية المستمد من الشريعة، فرغم أن الدستور الحالى يدعم حقوق المرأة بعبارات أقل التباسًا من الدساتير السابقة، ويؤكد مشاركة المرأة فى قوة العمل مدفوع الأجر، فإنه يقر التزاماتها المنزلية. 

يناقش «كونو» فكرة أن أيديولوجيا العائلة المصرية «خلطة مودرن» جمعت بين جذور الفكر الإسلامى، متمثلًا فى علاقة النفقة مقابل الطاعة التى تعنى أن واجب الزوج الإنفاق على زوجته وأطفاله مقابل طاعة الزوجة، وبين تمجيد الأسرة والحياة المنزلية المستمدة من الفكر الأوروبى بالقرن التاسع عشر، إذ يعتبر أن الحداثة المصرية كانت تعبيرًا عن خبرات متجذرة فى تقاليد مختلفة عن تلك التى تنتمى إليها الإصلاحات المستوحاة من الأوروبيين. 

ويصل المؤرخ الأمريكى إلى تلك النتيجة بدراسة العوامل السياسية والاجتماعية والديموجرافية وعدد من كتابات المثقفين ويومياتهم، لينوه بأن الدين لم يكن وحده العامل الرئيسى الذى يقرر حياة العائلة، كما لم يكن التأثير الغربى هو الدافع الوحيد للتغيير. 

مفهوم ألاسرة

المقارنة الأولى التى يعقدها المؤلف تتمحور حول ما نصت عليه الدساتير المتعاقبة، وما ينص عليه الفقه الإسلامى جعلته يؤكد أن مفهوم الأسرة الذى أصبح فى القرن العشرين يدل على الأسرة المكونة من زوجين أو الأسرة النواة، هو مفهوم مستقى بالأساس من الفكر التنويرى الغربى وليس الفقه الذى يفضل العائلة الممتدة من النسل الأبوى. من جهة أخرى، فإن إشارة الدستور إلى مسئوليات النساء تجاه الأسرة عن أيديولوجية منزلية لا تعد تعبيرًا عن الفقه الذى لم يطلب طوال تاريخه من النساء أداء واجبات تجاه أعمال المنزل أو الأطفال، فقد أُضفيت قداسة على أفكار ليس لها أساس دينى نصى مثل الأيديولوجية المنزلية التى جعلت مكان المرأة فى البيت بحجة أنه إذا كانت النساء مناسبات للمنزل بطبيعتهن فلا بد أن الله فرض عليهن ذلك. 

على الضفة الأخرى وبدراسته الحياة السياسية فى مصر بتلك الفترة يرصد «كونو» الأسباب الأقرب للحقيقة التى قادت إلى تراجع تعدد الزوجات واتباع أسلوب الزواج الأحادى، فيوضح أن جانبًا كبيرًا من ذلك يرجع إلى افتتان الأسرة الخديوية بالفكرة، ورغبتها فى اتباعها لإثبات تمدنها، ما جعل الطبقتين الوسطى والعليا تحذوان حذوها. فضلًا عن التغيرات السياسية، يبين المؤلف أن المتغيرات الاجتماعية والديموجرافية من تطور التعليم وظهور مهن جديدة ورواج أيديولوجية جديدة للعائلة، كانت تحظى بتشجيع مفكرى الحداثة وفى الصحافة قادت إلى النتيجة ذاتها. يرجع «كونو» فى هذا الصدد إلى مذكرات عدد من الكتاب الذين تزوجوا من الفترة ١٨٨٠- ١٩٢٣ ليكشف عن ترتيبات الزواج، كما وصفوها، ويكتشف من خلال هذا الاطلاع أن الرجال الذين استطاعوا تأخير الزواج حتى أصبحوا يمتلكون موارد مستقلة استطاعوا تدبير زيجاتهم بأنفسهم، كما تسبب السعى إلى التعليم العالى والحصول على وظيفة مهنية فى تزايد عدد من يفعلون ذلك، إلى أن صار بحلول أوائل القرن العشرين فى إمكان العائلات من الطبقتين الوسطى والعليا السماح لبناتها بمقابلة أزواج المستقبل. 

المفكرون الحداثيون

لا تتوقف محاولات المؤرخ الأمريكى للإجابة عن أسئلته عند ذلك، وإنما يتعدى ذلك إلى دراسة كتابات المفكرين بتلك الفترة ليقف على محاور فكرهم وجذورها وتأثير أفكارهم على أيديولوجيا العائلة المصرية. فى هذا الصدد يرى «كونو» أن كتابات المفكرين من مؤيدى الحداثة مثل رفاعة الطهطاوى أسهمت فى انتشار أفكار العائلة والتعليم والتقدم، وهى أفكار لم تتأثر فقط بالفكر الاجتماعى الأوروبى فى القرن التاسع عشر، بل أيضًا بكتابات المسلمين قبل عصر الاستعمار. 

ويوضح ذلك بقوله: طور مفكرو الحداثة الافتراضات الأساسية للأيديولوجية العائلية فى الجيل السابق على الاحتلال البريطانى، وظهور النقد الحاد للغرب على حياة الأسرة المسلمة، وقد اعتمد هؤلاء المفكرون على مجموعة من الأفكار حول العائلة والمجتمع والحضارة ظهرت بداياتها فى الفكر الاجتماعى الأوروبى، لكنهم سعوا لاستخدام هذه الأفكار لتحسين أحوال المجتمع.

يشدد «كونو» على أن التجديديين أرادوا محاكاة الحضارة التى وصلت إليها أوروبا، لكنهم لم يعتبروا أنفسهم متغربين أو داعين إلى التغريب، وإنما بالمقابل فهموا أن الحضارة أعلى مرحلة من التقدم الإنسانى، وأن المجتمع الإسلامى قادر على إحرازها، كما كانوا قادرين على التعرف على مصادر الحضارة المعاصرة داخل تراثهم الثقافى الإسلامى. 

المحاكم الشرعية والقوانين الحديثة

من المقارنات اللافتة التى يعقدها «كونو»، والتى تكشف عن أن التحديث لم يكن بالضرورة ودائمًا فى صالح المرأة والعائلة، تلك التى تخص قوانين المحاكم الشرعية فى مقابل قانون إجراءات المحاكم بوقت لاحق، فيجادل بأنه حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت المحاكم الشرعية تطبق أحكام مذاهب الشريعة السنية الأربعة، وتسمح للأفراد باختيار المذهب الذى يريدون الاحتكام إليه للاستفادة من أفضل الأحكام، وبينما كان كل مذهب بمفرده متشددًا، كانت طريقة الاختيار فى المحاكم الشرعية تضفى مرونة على النظام الشرعى إلى أن قادت التنظيمات الجديدة إلى الإضرار بالنساء. يبين «كونو» ذلك بقوله: منذ ما لا يتعدى أواسط القرن التاسع عشر تلقى قضاة المحكمة الشرعية تعليمات بتطبيق أحكام المذهب الحنفى، وأدى التحول إلى المذهب الحنفى إلى الإضرار بالنساء المتزوجات، حيث جعل من الصعب عليهن المطالبة بمتأخرات النفقة من أزواجهن، وكذلك جعل من المستحيل عليهن طلب الطلاق، ولم يتم إصلاح هذه النواتج إلا بعد الحرب العالمية الأولى بإعادة تنظيم المحاكم.

ويُبين تاريخ «بيت الطاعة» جانبًا من الفكرة التى يسعى «كونو» لإثباتها، فبينما كان النظام القانونى بيت الطاعة فى مرحلة ما قبل الاستعمار للمرأة المتزوجة التى تركت بيت زوجها دون إذنه يقضى بعدم استحقاقها النفقة ويطالبها بعودتها إلى منزلها، إلا أنه لم يكن يتخذ ضدها أى إجراء حال رفضها العودة، أما قانون إجراءات المحاكم ١٨٩٧ فقد منح الشرطة سلطة تنفيذ الطاعة وإعادة الزوجات بالقوة. يعلق المؤرخ الأمريكى على ذلك بقوله: التاريخ الغريب لبيت الطاعة يتعارض مع الفكرة المنتشرة بأن عملية التحديث كانت نتيجتها دائمًا تحسينات فى أحوال الإنسان، كما أنه يضفى تعقيدات على قضية تأثير الإصلاحات المستوحاة من الغرب على وضع المرأةـ فإعادة تنظيم النظام القضائى على النمط الأوروبى أنتج نظامًا هجينًا استبدلت فيه الصرامة والأحكام المعيارية بمرونة نظام المحاكم الشرعية القديم.