رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جوتيريش.. رجل لهذا الزمان

على الرغم من كل تلك الأثافي التي أتت بها هذه الحرب الظالمة على غزة من قتل وتدمير وتخريب، إلا أنها لم تخلُ من إشارات تطمئننا أننا ما زلنا نحيا في عالم معمور بالبشر وليس الجمادات أو الحيوانات التي لا تفقه ولا تعي. فكمية التعاطف الدولي التي تزداد وتيرتها يوما بعد آخر - مع تصاعد حدة آلة الحرب الصهيونية وتزايد أعداد الضحايا من المدنيين- كانت واحدة من تلك الأمور المطمئنة.

مشهد إيجابي آخر وسط كل هذه الضبابية التي تحيط المشهد حولنا هو تلك الأصوات المنددة من قادة وزعماء تحركت ضمائرهم لتقول: لا. لا لظلم شعب تعرض للقمع والتشريد والتهجير القسري لعقود طويلة مضت بلا ذنب ولا خطيئة ارتكبها، اللهم إلا مطالبته بحقوقه المشروعة وفقا للقانون الدولي والإنساني.

من بين تلك الأصوات الرشيدة التي دعت لإيقاف آلة الحرب الهمجية وإعلاء صوت العقل والتحرك نحو السلام العادل كخيار وحيد ينبغي أن يقبل به المعتدي، بعدما ارتضاه المُعتدى عليه وممثلوه الشرعيون- في أكثر من مؤتمر وفعالية دولية- كان صوت السيد أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة.

لفت الرجل انتباه العالم بتحركه الجريء نحو معبر رفح في الأيام الأولى للعدوان على غزة ودعوته الصريحة لوقف الحرب بعبارات واضحة لا تحتمل المعنيين بلغة مغايرة لتلك اللغة الفضفاضة، والتي يجيدها رجال الدبلوماسية. صرّح الرجل تصريحات عاقلة غير منحازة إلا للحق والعدل ومنتصرة  لدوره المقرر والمتمثل في حفظ الأمن والسلام العالميين، فقد دعا في أكثر من مناسبة إلى تجنب المزيد من الإجراءات التي من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني الكارثي في غزة وتجنيب المدنيين المزيد من المعاناة.

وحين أعيته الحيلة ولم يجد استجابة إسرائيلية لأي من مناشداته التي تعددت خلال شهري العدوان المتوحش على المدنيين العزّل من أهل غزة وجّه الرجل الإنسان خطابا إلى مجلس الأمن مُفعّلا بذلك المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تبيح للسكرتير العام لفت انتباه المجلس إلى أي قضية تهدد السلم الدولي. وقد نبّه الرجل مجلس الأمن من خلال استخدامه هذه المادة، والتي توصف بأنها أقوى أداة يمتلكها الأمين العام للأمم المتحدة إلى خطورة الموقف- الواضح لكل ذي عينين- من أنه : "قد يتكشّف وضع أسوأ، بما في ذلك تفشي أمراض وبائية، وزيادة الضغط من أجل النزوح الجماعي". 
  ربما تحرك هذه الرسالة وهذا الموقف الجرئ ونادر الاستخدام ضمائر الأمم الأعضاء، وخاصة تلك الدول التي اعتادت مناصرة دولة الكيان وتأييدها كلما ارتكبت إحدى الحماقات مهما بلغ تدني فعلتها ووصولها حد الإجرام والوحشية. وقد لا تؤتي هذه الرسالة أُكُلها، لكن الرجل أبرأ ذمته وسجل أمام العالم موقفا تاريخيا شجاعا يُحسب له، ويعطي بعض المصداقية للأمم المتحدة، التي كدنا أن نكفر بها وبدورها المفترض من السعي لإقرار السلام العالمي وتوطيده بين شعوب العالم.
   وفي متن خطابه الذي وجهه إلى مجلس الأمن، الأربعاء الماضي، توقع جوتيريش انهيار النظام العام في غزة بالكامل عمّا قريب، وهو ما من شأنه أن يحول دون توصيل المساعدات، التي وصفها بالمحدودة، تلك التي يمكن توفيرها حاليا. وكلمة "كارثة" التي استخدمها جوتيريش هي أدق توصيف لما يحدث في غزة، بعدما عبّر البعض أن الأمم المتحدة تكاد تصل إلى نقطة الشلل التام فيما يخص عملياتها الإنسانية في غزة، ذلك القطاع المكلوم الذي قتل فيه نحو 15 ألف ضحية، بينهم حوالي 130 موظفا أمميا يعملون في وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. بينما أصيب حوالي 43 ألفا مدنيا جُلُهم من النساء والأطفال. كل هذا جعل من القيام بعمليات إنسانية ذات مغزى أمرا مستحيلا.
  وردا على هذا الموقف الإنساني الشجاع جاءت تصريحات وزير خارجية الكيان بأن خطوة جوتيريش باستخدام المادة 99 ودعوته لوقف إطلاق النار يمثلان دعما لحماس، فيما اعتبرها مندوب دولة الكيان بالأمم المتحدة تحاملا من السكرتير العام ضد بلده. وهذه فيما أرى تصريحات تعطي دلالة بأن جوتيريش أصبح في مرمى نيران الكيان وأنصاره، وأنه صار مغضوبا عليه من اليهود وحلفائهم، بمعنى عدم إمكانية التجديد للرجل كأمين عام للمنظمة الدولية في دورة مقبلة، تماما كما فعلوا من قبل مع د. بطرس غالي، حين حرص على الاستقلال بالرأي، وتحقيق المصلحة العامة لكل الأمم وليس لقوة دولية دون غيرها.
 وفي رأيي أن الرجل قد حفظ بموقفه الإنساني هذا لمنظمة الأمم المتحدة ماء وجهها، وأنها بهذا الموقف قد ضمنت بقاء مشروطا لسنوات مقبلة. والشرط في رأيي هو أن تدعم الدول الأعضاء من محبي السلام والداعين له جوتيريش نفسه وتتمسك به أمينا عاما لدورة مقبلة حتى ترتدع تلك القوى التي تحسب أن القوة والهيمنة ستبقى في يدها إلى الأبد، فتمارس صلفا وغطرسة وظلما لا يقبله باقي الأمم من محبي السلام والمنادين به.