رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجليات الصراحة الصادمة فى الأحلام الغائمة «2»

سقطت عن المشاية.. 

المشاية هى الآلة الوحيدة التى أستخدمها فى الجيم، أريد أن أمشى، أمشى ولا أتوقف حتى لالتقاط أنفاسى، لا أستطيع الحركة فى الواقع، وحدها حركة المشاية، عليها أحقق أمنيتى، فى الحركة، الإزاحة، الرحيل، على إيقاع خطواتى أحاول استعادة ما يحدث لى، أجتهد لتذكر الأحداث بترتيبها، أحاول أن أدرب رأسى على هذه الطريقة، أضع محددات، علامات تدلنى على الطريق، لترتيب الفوضى المبعثرة فى تلافيف عقلى، فصل الحقيقى عن المتخيل، عن الأوهام والألعاب النفسية التى أقع فيها. 

أسترجع الصوت.. إغلاق غاضب لباب الشقة.. نزول دون سلام.. الخبط خلخل سكون وهدوء الهواء، استكانته، تظهر نملة هنا، نملة رفيعة، تتحرك بعفوية وعشوائية، وتلتصق بجلدى، أحس بدبيبها على جلدى، قبل أن تلدغنى، تفرز مادة كيميائية تُهيّج جلدى، تدرنات حمراء تنتشر على ذراعى. 

الكلمة التى قالها طعنتنى: لا تنظرى بهذا الشر.

كلمة «الشر» هى الخنجر الذى ذبحنى، يمكن أن أنظر بغضب، بسخرية، لكن لم يحدث فى حياتى أن نظرت لأحد أو شىء بشر، فكيف رأى ذلك وقد كنت متكومة أمامه على الكنبة، حزينة، باكية، غارقة فى دموعى، عيناى منتفختان، لا تقدران على التحديق أو المواجهة، الجفنان ثقيلان، كيف لم ير الحزن أو الانكسار، لم يره حتى غضب، استهزاء، اشمئزاز، قرف.

لم تنسج الكلمة غربة، أو وحدة، بل حفرت فجوة سقط فيها، هوة.. ما الذى يخرج من عين الشرير؟ من فمه؟ ما الذى يحشو جوفه؟ استعدت كل الأرواح الشريرة، الموت، الخراب، الطاعون، كل ما تخاف منه فطرة سليمة، وخفت.

كيف رآنى شرًا؟ 

الضربات التى تكال لى، لم أتخيل أن أتعرض لمثل هذه الضربات، كنت أقول دائمًا إذا آلمك ذراعك اقطعه، هذا كلام، جعجعة، اعتزل ما يؤذيك، كيف؟ إذا كان ما يؤذيك أقرب الناس إليك.. حازم وحبيبى وزوجى.. الشاب الذى طالما تطلعت إليه بالإعجاب والتقدير قبل أن أعرف معنى الحب، وعندما طلب يدى للزواج اكتشفت كم اختزنت حبه فى خلاياى لسنوات، بذرة انغرست فى روحى ونمت على مهلٍ وروية، وكان التعبير عنه بالإعجاب والتقدير المبررين بحكم قرابتنا وفارق العمر بيننا، أكبر منى بخمسة عشر عامًا. هو دائمًا أكبر من سنه فى تصرفاته، مصدر كل جديد فى العائلة، الموضة فى الملابس، تسريحة الشعر، الملابس.. طوال الوقت أنظر إليه كرحالة ومغامر. 

تخرج فى كلية الطب جامعة عين شمس، تخصص فى الطب النفسى، سافر لفيينا كى يسير على خطى فرويد وتزوج هناك وأنجب، وعاد مطلقًا، أنجز كل هذا وكنت لا أزال طالبة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لم أصدق نفسى، تصورت أن كل تجاربه، وما قضاه من عمره بعيدًا، كان وقتًا مستقطعًا، استراحة، حتى أكون جاهزة للارتباط به.

عاد فى المساء وأنا نائمة، نام على حافة السرير.

فى الصباح التالى غطيت وجهى كى لا يراه، ولم أرفع الغطاء إلا بعد أن سمعت صوت إغلاق باب الشقة، فى المساء، لمحنى وأنا أطفئ التكييف فى الريسيبشن وأدخل مسرعة لغرفة النوم، لا أريده أن يرانى، لا أعرف كيف أبدو أمامه، لا أثق فى مرآته، أبدو على صفحتها شديدة الضعف والهشاشة، ليست أنا، لكنه حالى فى ظل علاقتى به، وصلت لحالة فائرة من الهشاشة، تكالبت علىّ طيور وحشية عديدة.. أشعر بخيانة من كل الجهات.. تغيره نحوى، تغير كل ما حولى.. وجه مدينتى الذى يتغير ويشعرنى بغربة، شوارعها، أصواتها، روائحها، فأنزوى فى ركنى، خلف هذا الاختباء، خلف هذه اللا مبالاة.. سد هادر من حزن ثقيل، لا أريد أن أفتحه.. الدموع التى تغالبنى لقراءة خبر عن مقبرة جديدة يتم هدمها، كشك يحتل رصيفًا، أشجار تقصف، الأيام ثقيلة، أنتظر أن يمر اليوم، وهو يسحل روحى معه، هذه ليست أيامى، أنا حزينة حزينة حزينة حزينة، يملؤنى الحزن ويفيض من عينى، لكننى ما زلت أقول لنفسى: لا ترددى الكلمة، لا تجسميها، لكنها حقيقة، روحى تشاقق روحى، عدت للنقطة صفر، حيث لا أحد يشعر بى.