رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أول الغيث.. هُدنة

هدنة إنسانية تم التوصل لها بين فصائل المقاومة الفلسطينية ودولة الكيان الإسرائيلى. هدنة بدأ تنفيذها بالفعل اعتبارًا من ظهر الجمعة بعد نحو خمسين يومًا من تلك الحرب الانتقامية التى شنها جيش الاحتلال على الأبرياء العُزّل من المدنيين الفلسطينيين، انتقامًا لما فعلته فصائل المقاومة من عملية نوعية ناجحة يوم السابع من أكتوبر استهدفت مناطق فى الداخل الإسرائيلى.
 هدنة نتمنى لها أن تطول وتمتد، وأن يجتهد خلالها العقلاء من بنى البشر والممثلين للقوى الفاعلة عالميًا فى إجبار المتغطرس على القبول بحق الدولتين، والعيش فى سلام داخل حدود آمنة يقرها المجتمع الدولى دون سعى لبغى أو عدوان جديد على أراضى فلسطين أو أى من المناطق الحدودية المجاورة. هدنة نأمل أن تتحرك أثناءها القوى الفاعلة عالميًا تحركًا إيجابيًا بغية تحقيق السلام فى هذه المنطقة الملتهبة حلًا لأكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا وأطولها عمرًا وأكثرها ضحايا، على أن يكون تحرك تلك القوى متجردًا من مصالحها الشخصية.
 هدنة نرجو أن تكون فيها مساحة لعلاج نفسى صار مُلحًا وضروريًا لتلك الثكالى من الأمهات، وهؤلاء اليتامى من الأطفال الذين تركت تلك الحرب آثارها البشعة على نفسياتهم قبل أجسادهم. فما من طفل أو مراهق منهم إلا وقد فقد عزيزًا إلى قلبه قريبًا كان أو جارًا أو صديقًا، وفقد معه ذكريات ابتسامات بريئة تشاركا فيها أثناء لعبهم ولهوهم، ضحكات استبدلتها الأحداث بمشاعر أخرى من الألم والتشرد والدمار. وبناءً عليه فإن جهودًا أممية كثيرة وكبيرة وعصيبة يجب أن يبذلها الشرفاء من أجل العمل على علاج ضحايا تلك الحرب الشعواء نفسيًا.
 هدنة تلتقط فيها الأنفاس وتقوم خلالها الإدارة المصرية الحكيمة بإدخال ما يتاح إدخاله من مساعدات إنسانية وإغاثية عاجلة عبر معبر رفح البرى، فضلًا على كميات مناسبة من الوقود لازمة لإعادة تشغيل ما تعطّل من مرافق أهمها المستشفيات، علاوة على إدخال المزيد من الملابس الشتوية والأغطية التى توفر للمشردين الدفء الذى يعوزهم وهم فى مخيمات الإيواء. وبالفعل، تم الإعلان عن إدخال 260 شاحنة خلال يوم السبت، إذ تابعنا منذ ذلك التوقيت تدفق الشاحنات عبر معبر رفح لتتسلمها الأونروا والهلال الأحمر الفلسطينى، محملة بإمدادات طبية يحتاجها الجرحى، ومعونات غذائية تطعم بطونًا حرمت الزاد على مدى نحو شهرين.
 هدنة يتم خلالها انتشال جثث المفقودين تحت الركام، وليقوم الأهالى بالبحث عن ذويهم الذين فقدوهم خلال أيام المعركة. هدنة تدعو إلى وقف شامل ومستمر لإطلاق النار، يبدأ بعدها التفكير فى إعادة إعمار غزة المدمرة لتوفير حد أدنى من الحياة الآدمية لمن بقى على قيد الحياة. وتلك قضية أخرى كبيرة سيتم الانتباه لها بعد الوقف الشامل لأعمال القتال. فما تابعناه من تدمير شامل لشمال قطاع غزة وتعطيل لكل المرافق به أمر يحتاج وقتًا وجهدًا، ولكنه- وهذا هو الأهم- يحتاج لميزانيات ضخمة من الضرورى أن يتم ضخها لتنفيذ عملية إعمار واسعة وشاملة. 
 هدنة تحركت على إثرها موجات من المحتجزين يتم تبادلهم وفق صفقة إنسانية استغرقت أيامًا طويلة وجهودًا كبيرة قامت بها مصر وقطر والولايات المتحدة وكثير من الشرفاء فى هذا العالم. مما استدعى تقديم الشكر من جانب الرئيس الأمريكى ورئيس الوزراء البريطانى ووزيرة الخارجية الألمانية للدولة المصرية وقيادتها.
 هدنة ننتظر أن يتبعها اتفاق على وقف شامل لإطلاق النار لتتاح الفرصة لصوت العقل بديلًا عن أصوات المدافع. هدنة كنا نتمنى - ولا نزال - أن يتم تمديدها فوق الأربعة أيام المقررة لها لتتدخل بعدها آليات البناء والإعمار أملًا فى عودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل بدء هذه الجولة من الحرب.  
قد يرى البعض أن أيامًا أربعة لا تكاد تكفى لإنجاز كل هذه الأمور العاجلة، ولكننا نرى أن أول الغيث - أو بالأحرى أول السلام - هدنة. هدنة يكون لها ما بعدها من توقف دائم لآلة الحرب لدى كلا الطرفين. والمطلوب إذن أن تتوقف العمليات والاقتحامات التى قد تشعل الصراع من جديد.