رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبشركم.. ضمير العالم يستيقظ

 بعد ما يقرب من الشهرين من تلك المقتلة التي تديرها آلة الحرب الصهيونية ضد أطفال ونساء غزة بغرض الإبادة الجماعية، بدأ ضمير العالم في الاستيقاظ. نعم، هو استيقاظ متأخر لكنه مشكور على أي حال، لأنه أفضل من ذلك الاستغراق في النوم الذي يغط فيه بعض من أصحاب القضية الأصليين. بدا توحش الكيان الصهيوني على حقيقته من الوضوح، متذرعا بما يقوم به المقاومون الفلسطينيون من رد فعل على مخطط تشريد وتهجير منظم بدأ منذ حلّ اليهود على أرض فلسطين. وقد ازدادت وتيرة السلوك الاستعماري حدة وتوحشا في العقدين الأخيرين مع ذلك الوهن الذي أصاب الأمة العربية وذلك الصمت الرهيب الذي أصاب العالم، واستغلت إسرائيل وداعميها في ذلك الآلة الإعلامية الصهيو- أمريكية.
 ظل العدوان الإسرائيلي الحالي – في أيامه الأولى – ينال قدرا كبيرا من غض الطرف نحو ما يحدثه من تدمير وما يمارسه من تقتيل ثم ما يستهدفه من تهجير ضد المدنيين من أبناء فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة. وكادت عقولنا تتوقف جرّاء ازدواجية المعايير لدى الضمير الإنساني. إذ لاحظنا اتهام المجني عليه، في حين تحدث الجميع – إلا القلة العاقلة – عن ظلم يتعرض له الجاني.
    في ذلك الوقت المبكر من أيام العدوان الأولى كان تدخل القيادة المصرية بتوجيه الدعوة لمؤتمر دعت إليه القوى العالمية الفاعلة. ورغم ما فسّره البعض من عدم نجاح لقمة القاهرة للسلام في تحقيق الهدف منها، إلا أن المنصفين يدركون تماما أنها كانت الحجر الأول بل والأهم الذي قُذفت به آلة الحرب الإعلامية الناجحة في ذلك الحين. إذ كانت تلك القمة سبيلا لتغيير دفة الإعلام العالمي نحو تفهم القضية بمنظورنا نحن العرب، وإسماع الشارع الغربي خاصة والعالمي عامة صوتا آخر غير ما يسرب لهم ليل نهار من ظلم العرب ووحشيتهم.
   و حسنا فعلت الإدارة المصرية التي نظمت زيارة إلى حدودنا مع غزة لذلك الرجل الإنسان أنطونيو جوتيريش أمين عام الأمم المتحدة. وعلى الحدود كان مؤتمره الصحفي الذي اعتبره نقطة البداية لنظرة الغرب لعدم منطقية الرواية الصهيو- أمريكية وتحيزها المطلق. ولعل خلفية جوتيريش في العمل الإنساني حيث شغل منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الفترة من يونيو 2005 حتى ديسمبر 2015، كانت هي المحرك لإعلانه التعاطف التام مع الفلسطينيين الذين يتعرضون للقصف الإسرائيلي المنتظم ليل نهار دون امتلاك آلة حرب تصد عنهم تلك الاعتداءات.
   اتسمت تعبيرات جوتيريش في مؤتمره الصحفي عند معبر رفح باللغة الدبلوماسية، لكنها لم تخل من عبارات جادة حادة على نحو قوله: صُدمت من الموت والخراب الذى تعرض له المستشفى الأهلى المعمداني، وتأكيده أنه يجب وصول المساعدات والطعام والدواء ويجب إلا يتعلق الأمر بعملية صغيرة وإنما بشكل دائم، ثم مخاطبته للضمير العالمي بأن أهالي غزة بحاجة عاجلة إلى كل أنواع المساعدة. لتتصاعد حدة تصريحاته مع استمرار الكيان في صلفه وتجبره وتحديه للإرادة الدولية إذ سمعناه يقول في يوم 6 نوفمبر: " غزة مقبرة الأطفال، وإن الكابوس في غزة أكثر من مجرد أزمة إنسانية. إنها أزمة للإنسانية”. 
    ثم لاحظنا ومع تصاعد حدة الأزمة تغييرا واضحا في نظرة الشارع العالمي للأحداث حيث ضرب المواطن الأوروبي عرض الحائط بتوجهات حكوماته ومواقفها المنحازة، بينما قرر هو الانحياز لضميره ولكونه إنسانا. وبدأ الشارع في التحرك لإبداء تعاطفه مع الأبرياء في غزة. كانت البداية من عواصم عربية وإسلامية، ثم انتقلت عدوى هذه الوقفات إلى أوروبا وأمريكا ذاتها وفي قلب العاصمة واشنطن. وكانت تلك المظاهرات إشعارا بأن المتظاهرين انتقلوا من مجرد التعاطف مع الفلسطينيين إلى المطالبة بوقف إطلاق النار. 
    ولكن مظاهرات السبت الماضي في العاصمة البريطانية كانت ذات دلالة أبرز ليس فقط من حيث تعداد المشاركين، والذي قدره البعض بنحو 300 ألف متظاهر، وهو رقم كبير للغاية إذا وضعنا في الاعتبار تحدي هذ المظاهرات لموقف وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان بعد وصفها الاحتجاجات بأنها مسيرات كراهية. إلى أن اضطر سوناك رئيس الحكومة إلى إقالتها على خلفية تصريحاتها المنحازة والتي وصفت فيها المتظاهرين بأنهم من مروجي الكراهية، وقولها إنّ شوارع لندن يجري تلويثها بالكراهية والعنف ومعاداة السامية.
   و انتقل الموقف العالمي الإنساني من الشارع إلى عدد من الساسة العالميين فهذه وزيرة الشئون الاجتماعية في إسبانيا تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائيل. وتلك زعيمة الحزب الحاكم في أيرلندا تطالب بطرد السفير الإسرائيلي من بلادها، وهكذا. ليخرج إيلى كوهين وزير الخارجية الإسرائيلى مصرحا بأن الضغوط تتزايد على إسرائيل بشأن حربها المتواصلة على قطاع غزة، موضحًا أن تلك الضغوط ستزداد ثقلا بشكل كبير خلال أسبوعين أو ثلاثة.
    كل هذه تداعيات استيقاظ مفاجئ للضمير العالمي، وهي في النهاية بشريات بتغير قريب قادم في الموقف الدولي الرسمي نحو العدوان وهو ما قد يؤثر في النهاية على آلة الحرب الإسرائيلية ويضع حليفتها الكبرى في حرج ينتهي بتغيير المعادلة. ترونني أحلم ؟ صحيح. إذن، دعونا نحلم فليس في أيدينا إلا الحلم إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ومقدرا.