رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل احتلال إلى زوال

    تسير في الطرقات فترى الناس في وجوم والصمت صار سيد الموقف، وحتى تلك المشاحنات اليومية التي كنا نألفها في الشوارع والأسواق وفي وسائل المواصلات تراها قلّت إلى حد الاختفاء، وحتى ابتسامة الناس غابت أو تكاد، يمضي الناس إلى أعمالهم كل صباح وفي مخيّلتهم مشاهد العنف والتقتيل التي شاهدوها عبر الفضائيات في اليوم السابق، فأرّقت نومهم ليلا. تلك بالضبط ودون أدنى مبالغة هي حالة الشارع المصري، فليس في يد المواطن ما يمنع به الهمج عن وحشيتهم، اللهم إلا الدعاء والتبرع بالقليل الذي يملكه، وهما سلاحان عظيمان لو تعلمون. فضلا على ثقتهم الكاملة في قيادتهم التي تسعى جاهدة لحقن دماء الأشقاء ثم إزالة آثار العدوان.
  قابلت منذ أيام أحد مثقفينا الوطنيين فرأيته على هذا الحال الذي وصفت، ولكنه كان أكثر تماسكًا من كل الذين رأيتهم. استغربت رباطة الجأش عنده فقال لي عبارة موجزة: اطمئن فكل احتلال إلى زوال، وكل حركة مقاومة تنتصر دائما. كلمات بسيطة لكنها تلخص صفحات كثيرة طوتها كتب التاريخ، واليوم يسجل الفلسطينيون صفحة جديدة باسمهم. قال الرجل بثبات إن كل الشواهد تؤكد أن المحتل مهما استكبر في الأرض وظن أنه قهر أصحاب الوطن الحقيقيين فإن جيلا جديدا يأتيه من حيث لا يحتسب ليقلب جنته نارا، وليُنغص عليه عيشته حتى ينتهي به الأمر أن يحمل عصاه ويرحل.
  فكرت فيما قاله الصديق الفيلسوف، فتيقنت من صدق رؤيته، واستبشرت خيرا بنبوءته. فالهكسوس قديما غزوا مصر واحتلوها قرنا كاملا حتى جاءهم أحمُس فخلّص البلاد منهم. أما قصة الاحتلال الإنجليزي لمصر والذي جثم على الصدور في الفترة من 1882 إلى أن خرج آخر جندي بريطاني من القاعدة البريطانية بقناة السويس في 18 يونيو 1956، فهي الحالة الأكثر حضورا في الأذهان. ربما لم يظن المحتل أنه سيخرج من أرضنا، ولكن كان هناك رأي آخر للمخلصين من أبناء هذا الوطن الذين عرفناهم بعد أن سجلت قصص كفاحهم وثائق التاريخ أمثال: عرابي، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول وغيرهم. أو حتى أولئك الذين عملوا في حركات سرية وتنظيمات فدائية ولم يتصدروا منصات الكلام أو احتفالات الخطابة ولكنهم جاهدوا في الوطن حق جهاده حتى أتاهم الاستقلال.
    ربما من الإنصاف أيضا أن نذكّر هنا بكفاح المجاهدين في الجزائر الشقيق بلد المليون ونصف المليون من الشهداء الذين كانوا وقود معركة الحرية بين عامي 1954 وحتى عام 1962. ولا يمكن لمنصف أن ينسى ذلك الدور العروبي المساند الذي لعبته القيادة المصرية برئاسة الرئيس عبدالناصر في دعم الثورة الجزائرية بكل الوسائل سواء من خلال إذاعة صوت العرب ودورها التحريضي ضد المحتل، أو باستغلال السينما المصرية و تقديمها لقصة المناضلة جميلة بوحيرد، أو من خلال الموسيقى أيضا حين وضع الموسيقار محمد فوزي موسيقى قصيدة " قسما" للشاعر مفدي زكريا  ليعتمد كنشيد وطني للجزائر حتى اليوم، أو من خلال المنصات السياسية الدولية وتبني قضية عروبة الجزائر وحقها في التحرير.
      ولنا في قصة الاحتلال البريطاني للهند عبرة أخرى، احتلال استمر منذ بداية القرن ال19 واستمر حتى منتصف القرن العشرين. لقد اعتبر المستعمر البريطاني شبه القارة الهندية درة التاج، إذ بدأ الاحتلال تجاريا بهدف استغلال خيرات الهند من حرير وتوابل ومجوهرات وقطن وشاي وملح. بدأ الأمر بتأسيس شركة شرق الهند، وانتهى بالسيطرة على كامل شبه الجزيرة فيما يعرف اليوم بدول الهند وباكستان وبنجلاديش وسيريلانكا، إذ أحكم البريطانيون السيطرة على كل هذه المناطق  بدءًا من سنة 1750م إلى سنة 1947م. وحين ظهر على الساحة الهندية غاندي كزعيم وطني اتخذ من سياسة العصيان المدني سبيلا للمطالبة بحقوق أمته. غاندي الذي قال: "سيتجاهلونك، ثم يحاربونك، ثم يحاولون قتلك، ثم يفاوضونك، ثم يتراجعون، وفي النهاية ستنتصر". جملة تُطمئن كل الساعين إلى الحرية والاستقلال أنهم سيبلغون مأربهم يوما مهما طال الأمد.
    خاض شعب أفغانستان رحلة مقاومة الاستعمار مرة ضد الاتحاد السوفيتي في الفترة من ديسمبر 1979 وحتى فبراير 1989، وقضوا خلال رحلة المقاومة على نحو 14453 جنديا سوفيتيا. ولكن ثمن الحرية كان غاليا جدا، إذ تم قتل نحو مليوني أفغاني على يد المحتل السوفيتي، وهاجر عدد كبير من الأفغان يقدر بثلث تعداد السكان إلى كل من باكستان وإيران، في حين نزح نحو مليونين آخرين إلى مناطق أخرى داخل البلاد. وخلّف الاحتلال دمارا شاملا في العديد من المرافق والمنازل بالقرى. وتم تبوير الأراضي الزراعية بعد أن زرع فيها المحتل آلاف الألغام دون خرائط تسهّل من عملية تطهيرها لاحقا. ولم تسلم أفغانستان فقد كانت عرضة لاحتلال جديد ولكنه من الولايات المتحدة هذه المرة. إذ سعت أمريكا للقضاء هناك على تنظيم "القاعدة" بعد اتهامه بالضلوع في أحداث 11 سبتمبر عام 2001. ثم عادت قوات طالبان لتنجح في الإطاحة بالحكومة الأفغانية في 2021 وتعيد تأسيس حكم لها داخل أفغانستان.
    ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تُمنى فيها الولايات المتحدة بالهزيمة إزاء مخططاتها الاستعمارية فتجربة فيتنام ماتزال ماثلة في الأذهان رغم مرور نحو نصف قرن على انتهائها. وهي المغامرة التي تكبدت الولايات المتحدة نحو 58 ألف قتيل وأكثر من 304 ألف جريح ثمنا لها. انتهت تلك الحرب الأمريكية على فيتنام بهزيمة مذلة وخسائر مادية وبشرية هائلة، مما ترك ندوبا غائرة في الجسد الأمريكي المتغطرس مازال يعاني منها حتى اليوم إذ يعتبرها كثير من الأمريكان أنفسهم  وصمة عار في تاريخ العسكرية الأمريكية.
   تلك مجرد مقتطفات من سجلات التاريخ تؤكد ما ذكره لي صديقي من أن الاحتلال دائما إلى زوال، وأن المقاومة تنتصر دائما في نهاية المعركة. لكن هذا مرهون بشروط واضحة أهمها: عدالة القضية، والإيمان بنزاهة الهدف، وتوافر المؤمنين بحتمية النصر مهما كان صعبا ومهما تأخر، ووجود الداعم النزيه لقضيتك، وجدية المقاومين في التدريب ومهارتهم في التنفيذ. ويقيني أن كل تلك الشروط متوافرة كضمانات نجاح للمقاومة الفلسطينية ليتحقق لها النصر الذي يرونه بعيدا ونراه – نحن العرب- قريبا إن شاء الله.