رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«دولة واحدة».. قراءة فى مدى واقعية «حل الدولتين» والطرح الأمثل لإنهاء الصراع

انتهاكات متتالية
انتهاكات متتالية يقوم بها الجيش الإسرائيلى

على الرغم من أن النظر فى الحلول العقلانية والخيارات المستقبلية للقضية الفلسطينية يظل مستعصيًا، وربما غير مرغوب به فى خضم انتهاكات متتالية يقوم بها الجيش الإسرائيلى وإبادة جماعية تعصف بحياة المدنيين الفلسطينيين فى غزة، فإن التفكير فى حلول للنجاة من تكرار المآسى ذاتها مع كل جيل يظل ضرورة وأملًا قد لا يكون قويًا أمام صورة معتمة كليًا. 

ينطلق كتاب «دولة واحدة: المستقبل الديمقراطى الوحيد لفلسطين- إسرائيل»، للمفكرة الفلسطينية غادة الكرمى، الذى صدر هذا العام عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» بترجمة أنجزتها ابتسام بن خضراء- من أمل فى إمكانية أن يكون المستقبل فى فلسطين غير ما هو عليه اليوم وأمس، ومن أمنية تبدو فى ظل الوضع الراهن المتأجج أقرب إلى الاستحالة.

مع ذلك، فإن الكتاب لا يكتسب أهميته فقط مما يطرحه من حلول للقضية الفلسطينية- الإسرائيلية تظل محل خلاف، وإنما من رصده البانورامى لتاريخ الأزمة وبدايات تشكلها والتحولات بالمواقف التى جرت على امتداد ما يقرب من قرن. 

ومع أن النظر فى أهمية حل الدولة الواحدة بالنسبة للقضية الفلسطينية الإسرائيلية ما بين تأييد لها واعتراض عليها هو محور هذا الكتاب، فإنه لا يقتصر على ذلك، ففى طواف بانورامى تروى الكاتبة بدايات تشكُّل الدولة الإسرائيلية بدعم غربى هائل، وعلاقة إسرائيل باليهود من مختلف دول العالم والعقيدة اليهودية المتمحورة حول فكرة وجود شعب يهودى واحد ينبع أصله من الشرق الأوسط، والتى استحوذت على اليهود بغض النظر عن تاريخهم الشخصى أو لغاتهم أو ثقافاتهم العلمانية. 

ترصد المؤلفة أيضًا سلسلة الانتفاضات الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيونى وصولًا إلى أحداث مايو ٢٠٢١، التى شهدت انتفاضات المجتمعات الفلسطينية الواقعة تحت الحكم الإسرائيلى، وعمليات السلام الإسرائيلية الفلسطينية بدءًا من القرار ٢٤٢ من مجلس الأمن الدولى بعد حرب ١٩٦٧، ثم اتفاقية كامب ديفيد وما بعدها، ومؤتمر مدريد للسلام ١٩٩١، واتفاقية أوسلو ١٩٩٣، وكذلك خطة السلام التى وضعها الرئيس ترامب ٢٠٢٠، كاشفة عن أشكال المراوغة الإسرائيلية التى جعلت من تحقيق السلام هدفًا بعيد المنال.

توضح الكاتبة الأثمان الباهظة التى دفعها العالم العربى والشرق الأوسط إثر زرع الكيان الصهيونى به فى مرحلة كان يحاول فيها معالجة آثار الاستعمار عقب الاستقلال، فبينما كانت البلدان حديثة الاستقلال تحاول النهوض من عثراتها التى سببها الاستعمار، أدى الاحتلال الإسرائيلى إلى اقتيادها لحروب استنزفت مواردها وعرقلت التنمية، وتسببت فى تعزيز الانقسام إلى فصائل على أسس عرقية ودينية. 

وإن كانت آثار هذا الوجود الإسرائيلى كارثية على العالم العربى أجمع، فإنها كانت وما زالت مدمرة على الفلسطينيين الذين تحولوا من مجتمع مستقر إلى أمة من اللاجئين والمنفيين والمواطنين من الدرجة الثانية، ولمجتمعات واقعة تحت الاحتلال العسكرى يجرى تدمير طابعها العربى وهويتها الأصيلة منذ عقود ليحل محلها هذا الكيان المغتصب. 

ومع ذلك، كانت المتغيرات التاريخية سببًا فى تحول المواقف العربية إزاء الدولة الإسرائيلية على امتداد ٧٥ عامًا من وجودها بالمنطقة، إذ تغير الموقف العربى تجاه إسرائيل من رفض الاعتراف أو التعامل معها إلى خطط السلام والاعتراف الكامل بها باعتبارها جزءًا طبيعيًا من المنطقة، وإن كانت الحواجز النفسية والتاريخية ما زالت حائلة دون قبول كامل لـ«كيان» تدرك الشعوب العربية جيدًا آثار وجوده المدمرة عليهم. 

لا تكتب الكرمى عن الأزمة وحلولها المطروحة من منظور خارجى لا يُدرك عمقها، فالكاتبة ولدت فى فلسطين وأجبرت عائلتها على الفرار من منزلهم فى القدس ١٩٤٨، وخلال عقود ظلت تراقب نمو الدولة الإسرائيلية وتوسع نطاق هيمنتها ونفوذها، فهى لا تُنكر أن إنشاء إسرائيل فى منتصف القرن العشرين كان بتواطؤ بين بريطانيا، باعتبارها قوة استعمارية، والصهيونية بصفتها حركة استيطانية أوروبية. ومع ذلك، فهى تؤمن بأن العودة إلى الوراء، لا سيما مع الدعم الغربى الهائل هذا الكيان، لم تعد ممكنة، وهو ما توضحه بقولها: «وصلنا إلى نقطة اللا عودة لكلا الجانبين فى الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، فقد باتت إسرائيل مترسخة فى الشرق الأوسط دولة استيطانية قوية ذات موقع إقليمى، تنعم بالمساعدات والمزايا مهما كانت جرائمها، ومقاومة فلسطينية لا ترقى إلى المهمة الشاقة لتغيير الوضع الراهن». 

تنافح المؤلفة عن حل الدولة الواحدة باعتباره الأمثل من بين الحلول المطروحة للقضية الفلسطينية الإسرائيلية، فدولة مشتركة تضم اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين تعنى إنشاء كيان واحد لإسرائيل وفلسطين يعيش فيه الشعبان معًا دون أى حدود وبعيدًا عن كل مقترحات التقسيم التى وضعت سابقًا والتى انحازت لصالح إسرائيل. 

وفق هذا الحل، لن يضطر أى مستوطن يهودى إلى الانتقال، ولن يكون أى فلسطينى تحت الاحتلال فى هذه الدولة الواحدة، كما يمكن تقاسم موارد البلد الشحيحة دون أن تسرق إسرائيل الأرض والمياه، وستكون القدس مدينة لكلا الشعبين وليست حكرًا على إسرائيل، كما سيسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم الأصلى، وربما منازلهم الفعلية.

وتميز المؤلفة بين نوعين من الدولة الواحدة المبتغاة؛ الثنائية القومية والديمقراطية العلمانية، مدافعة عن الخيار الثانى الذى ترى أنه فى ظله سيتمتع المواطنون بحقوق غير مستمدة من الانتماء إلى جماعة عرقية أو دينية، وستقتصر الممارسات الدينية والعادات الاجتماعية على الحياة الخاصة ولا تشكل سياسة الدولة، موضحة: «مع حل القضايا العالقة بهذه الطريقة لن يبقى أى سبب للصراع بين الجانبين، سينتهى العداء العربى الحقيقى أو المتخيل الذى واجهه الإسرائيليون».

ترى «الكرمى» أن حل الدولة الواحدة أكثر نجاعة من حل الدولتين المتداول والأكثر ذيوعًا، فحل الدولتين تجاهل واقع التجزئة المجحفة للجزء المخصص للفلسطينيين والضم شبه الكامل لما يقرب من نصف أراضى الضفة الغربية إلى إسرئيل والجدار الفاصل الذى كان يرسم حدودًا جديدة لمصلحة إسرائيل، ولم يوفر أى نوع من الرقابة على اختلال توازن القوى بين الجانبين، والذى كان دائمًا يكفل لإسرائيل تحديد مجرى الأحداث بما يخدم مصالحها. 

وبناءً عليه، تعتقد المؤلفة أن حل الدولة الواحدة الذى ظهر فى العقدين الماضيين، رغم كل العراقيل التى تواجهه، يجب أن ينظر إليه على أنه عملية بطيئة لتطور الوعى السياسى والاجتماعى، وجزء من مسيرة نضال شاق تتطلب تفكيك هيكلية المؤسسات المبنية على أسس الصهيونية والاستعاضة عنها بالمساواة فى الحقوق وعدم التمييز. 

لا تنكر الكاتبة مع دفاعها عن هذا الطرح أنه ليس سهلًا، لأن أيًا من الطرفين لن يقبل به، فالإسرائيليون لن يقبلوا بالفلسطينيين شركاء مساوين لهم، فى بلد اعتادوا على اعتباره خاصًا بهم وحدهم، والفلسطينيون الذين نشأوا على أن الإسرائيليين مغتصبون ومعتدون ليس من السهل أن يتعايشوا معهم، بوصفهم مواطنين مساوين لهم، ومع ذلك فإنها تؤمن بأن هذا الطرح هو الأمثل فى ظل الأوضاع الراهنة لا سيما بالنسبة للفلسطينيين الذين سيتمكنون آنذاك من العودة إلى أرضهم، والعيش بها بمعزل عن الصراعات. 

بشكل عام، يمكن اعتبار الكتاب، رغم تركيزه على فكرة حل الدولة الواحدة باعتباره المخرج المستقبلى الممكن، رؤية بانورامية لتاريخ الأزمة ووثيقة جامعة لجل المناقشات حول القضية الفلسطينية- الإسرائيلية منذ تبلورها قبل ٧٥ عامًا، ووصولًا إلى هذا العام، قبيل «طوفان الأقصى» والانتهاكات الإسرائيلية الأحدث فى سلسلة الاعتداءات على حقوق الشعب الفلسطينى، ما يجعله فرصة لموضعة ما يجرى حاليًا بالأراضى الفلسطينية فى سياقه التاريخى الأعم والأشمل.