رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيها العالم الأصم.. ألا تسمع؟!

بلغ الصلف الإسرائيلي مداه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لاسيما في قطاع غزة. فالمشاهد متكررة كل يوم، صباحًا مساءً؛ منازل تُقتحم، مدنيون يُقصفون، مستشفيات تُدمر، أطفال تُشرد، أمهات لا يجدن ما يسكتن به صرخات جوع أطفالهن، موتى لا يستطيع أهلهم إكرامهم بالدفن. كل هذا خارج المواثيق الدولية، ولا يراعي العدو في ضحاياه عرفًا ولا خلقًا ولا دينًا ولا مواثيق، في حين أنه يتدثر بعباءة شريعة سماوية ويدّعي التدين- وقد كان الدين ذريعته ومن غرسوه في منطقتنا- ولكن الشريعة اليهودية وتوراة النبي موسى غير المحرّفة تتبرأ من هؤلاء الأدعياء ومما يصنعون.
لم تكن تلك الجرائم هي الأولى التي تكشف للعالم سفالة المعتدي وخرقه كل القواعد الإنسانية– ولا نقول الدينية– فمجزرة بحر البقر إبّان حرب الاستنزاف، والتي قام بها سلاح الجو الصهيوني صباح الثامن من أبريل سنة 1970، لم تكن ضد جيش نظامي يحاربه، ولكنها كانت جريمة حرب مكتملة الأركان راح ضحيتها ثلاثون طفلًا في سن البراءة، وأصيب خلالها خمسون آخرون من أطفال مصر الأبرياء، فضلًا عن تدمير مبنى المدرسة بالكامل. وحين نبحث عن السر وراء تلك الجريمة البشعة نجد أنها كانت سعيًا للضغط على مصر حتى تخفف من وطأة حرب الاستنزاف وتوقف إطلاق النار. وحينها، لم يجد السفاح صاحب ذلك القرار إلا أن ينتقم من مصر في أطفالها فوجّه صفوة طياريه، بل هو الأكثر خسة ووضاعة بطائرته الفانتوم ليقتل أطفال مدرسة ابتدائية في مركز الحسينية بمحافظة الشرقية، أرواح غضّة ما كان لهم أن يفهموا ماذا يجري ولماذا يتم استهدافهم وما هي حقيقة الصراع.
تذكر السجلات أن هذا الحادث ببشاعته ووحشيته أثار حالة من الغضب والاستنكار العالمي. وكالعادة فإن الشعوب تكون أسبق وأقوى من الحكومات إزاء مثل تلك الانتهاكات. فمن المتوقع أن يكون الموقف الرسمي الدولي سلبيًا، غير أن إدانة الشعوب للجريمة في حينها أجبر الرئيس نيكسون على تأجيل إمداد إسرائيل بصفقة طائرات حديثة في حينه، واضطر العدو أمام وقفة الرأي العام العالمي إلى أن يخفف من غاراته على المواقع المصرية لا سيما الميدانية منها، وبعد ذلك الحادث الإجرامي بما لا يزيد على شهرين دشنت مصر حائط الصواريخ، والذي قام باصطياد الكثير من طائرات العدو انتقامًا لدماء الأطفال الشهداء والجرحى. 
جريمة وصّفها للتاريخ صلاح جاهين بكلماته، ولحنها ببساطة وأيضًا بعبقرية سيد مكاوي، وأبكت العالم بأدائها المطربة الراحلة شادية بشدوها: الدرس انتهى لموا الكراريس بالدم اللي على ورقهم سال، في قصر الأمم المتحدة مسابقة لرسوم الأطفال، إيه رأيك في البقع الحمرا يا ضمير العالم يا عزيزي، دي لطفلة مصرية سمرا كانت من أشطر تلاميذي، دمها راسم زهرة، راسم راية ثورة، راسم وجه مؤامرة، راسم خلق جبابرة، راسم نار، راسم عار ع الصهيونية والاستعمار، والدنيا عليهم صابرة وساكتة على فعل الأباليس، الدرس انتهى لموا الكراريس. 
وهم كذلك بالفعل حتى اليوم أبالسة في صورة بشر. إذ أن ما حدث ويحدث كل يوم هذه الأيام في غزة فاق جريمة قصف مدرسة بحر البقر بعشرات بل بآلاف المرات. فصباح مساء، منذ شهر كامل يتابع العالم قصفًا متعمدًا للمنازل بل ولأحياء سكنية كاملة، وتهديمًا لدور عبادة ولمدارس تستخدم كدور إيواء آمنة، واستهدافًا همجيًا لمستشفيات تعج بالجرحى والمصابين. ولم يسلم حتى الحيوان من تلك الاعتداءات، فمنظر ذلك الحصان الذي كان يجر عربة كارو لا يقل بشاعة حين أصابته دفعة من طلقات دانات العدو التي كانت تستهدف الإنسان، فلم يسلم منها الحيوان أيضًا. وهنا نتابع أنه حتى هذا الحيوان المسكين لم يجد من يدافع عن حقوقه كما تفعل جمعيات الرفق بالحيوان في كل العالم حين يهين– ولا أقول حين يقتل– أحدهم حيوانًا مهما كانت درجة إيذائه وتهديده لحياة البشر. لكن حيوان غزة لم يكن أفضل حظًا من سكانها من البشر، فذنبه الوحيد أن الله قدّر له أن يعيش ويموت في هذه البقعة البائسة من الكرة الأرضية.
وربما لا يدرك صانع القرار في ذلك المجتمع الغربي الغاشم أن التاريخ لن يرحمه لكونه متواطئًا مع الصهاينة في جريمتهم بذلك الصمت الرهيب، وبغض الطرف عن جرائم الاحتلال ضد الإنسانية. وربما ينسى ذلك الغرب المتصهين أن التصعيد المستمر في غزة من جانب الجيش الإسرائيلي يهدد حياة الرهائن الذين تتحفظ عليهم قوات المقاومة، والذين تقول بيانات إسرائيلية إنهم يبلغون نحو 242 رهينة كما تصفهم إسرائيل، أو أسيرًا كما تصنفهم حماس. وجدير بالذكر أن هؤلاء الرهائن أو الأسرى ليسوا جميعًا من الإسرائيليين فبينهم كثير من الرعايا الأجانب أو مزدوجي الجنسية. باختصار شديد نستطيع أن نقول إن لا أحد بمنأى عن التهلكة في تلك الحرب، فالتهديد يطال الجميع مهما ظن نفسه آمنًا. ولعله من قبيل المصادفة أن يكون عدد الأسرى 242، وهو نفس رقم قرار مجلس الأمن الصادر في 22 نوفمبر عام 1967 والذي يقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها قبل 5 يونيو من ذات العام، وهو القرار ذاته الذي أصبح بمثابة أساس لمبادرات السلام في المستقبل. 
وقد كان هذا القرار يمثل صورة للتوافق الدولي على ما رآه العالم في ذلك الحين حلًا توافقيًا ينهي الصراع برُمته. إذ كان يقوم على تراجع العرب عن مطلب تحرير كامل فلسطين، ليكون البديل الذي طرحه القرار إقامة دولتين في فلسطين التاريخية تعيشان جنبًا إلى جنب، هما دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل. ولكن، يظل الصلف الإسرائيلي- بإصرارها على استمرار عملياتها ضد المدنيين وتوسيع دائرة الحرب- خطرًا يهدد الجميع، فتوسيع دائرة الحرب تُبقي النار مشتعلة دون أن يأمن أحد منها على نفسه أو اقتصاده أو رعاياه سواء في منطقتنا أو حتى في داخل المجتمعات التي تؤيد حكوماتها ذلك الاعتداء السافر على كل قواعد الإنسانية سواء بالمال أو بالسلاح أو بالتصويت المنحاز للظالم وليس المظلوم في الأمم المتحدة، أو حتى بمجرد غض الطرف عمّا يفعله المحتل ضد سكان البلد الأصليين. وقديمًا علّمونا أن على الباغي تدور الدوائر، فهل تستفيق دولة البغي قبل أن تندم على فرص السلام المتاحة فتحقن الدماء ويكون لكلا العرب واليهود حق الحياة الآمنة في دولتين تنعمان بالأمن والسلام؟ وهل يعيد المجتمع الدولي حساباته فيقف وقفة عادلة تنصف المظلوم ولا تنتصر للظالم؟ أم يظل الجميع في غيّه وانحيازه الأعمى دون احترام لقرارات أو معاهدات أو مواثيق؟