رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلسطين حرة.. بُشرة خير

منشغلًا بعملى الذى لا يكاد ينتهى حتى فى البيت، وجدت طفلتى ذات السبع سنوات تتسلل إلىّ حيث أجلس وانتهزت الفرصة حين رفعت عينىّ عن الحاسوب لتلتقى نظراتنا. تقدمت لتسألنى سؤالًا من تلك التى اعتدتها منها، ومن أخويها من قبل، حين كانا فى مثل عمرها، حيث سنوات تكوين المعارف وتشكيل القناعات. لم تمنحنى منن، وهذا هو اسمها، الفرصة لأعود لما كنت أكتب قبل إدراكى لوجودها، فبعد أن ابتسمت لها ابتسامة عابرة اعتدنا عليها وصارت ترجمتها بيننا «بعدين، مش فاضىى، ففى هذه المرة تسمرت الفتاة فى مكانها، وبادرتنى بسؤال: «بابا هوه يعنى إيه ح.ر. ة ؟» فأجبتها على عجل حتى تنتهى من حوارها فأستأنف عملى: حُرة، تُقرأ حرة.
فإذا بها يتهلل وجهها وتصيح مبتهجة قافزة لأعلى قفزة كانت أشبه برقصة طفولية وكأنها تلامس السماء صارخة بصوت عال: ييس، يعنى فلسطين حُرة. قلت فى نفسى بشرة خير، لكننى عدت لأسألها مندهشًا: يعنى عرفتى تقرأى فلسطين ولم تعرفى كلمة حرة؟ أجابتنى بعفوية: «ما أنا باشوف كلمة فلسطين كل يوم فى التليفزيون، وعلى النت، وعندنا فى المدرسة كانوا رافعين علم مكتوب عليه فلسطين». وعادت لاستئناف بهجتها، فاضطررت للتدخل بالتوضيح حتى لا تتمادى فى فرحتها ثم تصدم بعد ذلك. 
قلت لها ما معناه: «حبيبتى، عبارة فلسطين حرة التى قرأتيها ليست خبرًا، إنها مجرد أمنية يتمناها كاتب العبارة. فلسطين فى الحقيقة لا تزال أرضًا عربية محتلة. أنا أشارك كاتب عبارة فلسطين حرة أمنيته ومعى أخواك ووالدتك وكل عربى». خفتت فرحتها فجأة وتركتنى واجمة إلى حيث كانت، وبعد دقائق لمحتها وقد استأنفت لهوها على الكمبيوتر. والحقيقة أن هذا الموقف لم يكن هو الوحيد ولا الأول بينى وبين ابنتى حول ما يجرى من أحداث فى فلسطين، كما لم يكن هذا هو السؤال الأول الذى تحاول به معرفة المزيد من المعلومات عن فلسطين. بالطبع، لم تكن منن تشغل نفسها بالسؤال عن هذا الأمر قبل نحو أسبوعين حين اندلعت شرارة الأحداث فى قطاع غزة أرض الصمود والعزة.
وهنا زادت قناعتى بأن الكيان الصهيونى بتهوره يقدم للقضية الفلسطينية هدايا مجانية دون أن يدرى. أبسطها، بل أهمها، هو ذلك الأثر الطيب الذى تركته همجيته فى نفوس الأطفال وفى ضمائرهم. فقبل نحو أسبوعين لم يكن الكثير من شبابنا، ولا أقول أطفالنا، يعى شيئًا عن قضية فلسطين، اللهم إلا النذر اليسير الذى قد يكون صادفهم فى دراستهم الثانوية مثلا شىء من المعلومات عن قصة الصراع العربى الإسرائيلى منذ 1948 وحتى توقيع اتفاقية السلام. أما هذا الذى تفعله إسرائيل اليوم فى الآمنين الغزاويين من تشريد وتفجير وتقتيل، فقد كان مدعاة لأن يتوقف عنده الأطفال والشباب بالخوف ثم بالتعاطف ثم بالسؤال، لينتهى بهم الحال إلى تكوين قناعات متفاعلة مع الموقف الفلسطينى ومتعاطفة مع أقرانهم هناك، وهذا ما لم يدر فى خلد متخذ قرار التصعيد فى جيش الاحتلال.
تحضرنى هنا مقولة أجدها فى موضعها تمامًا، إذ يقولون إن المواقف الصعبة هى التى تصنع الأبطال، وهذا هو ما صنعه اليهود مع كل أطفال العرب والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص. فلو لم تكن إسرائيل قد صعّدت الموقف وصنعت ما نرى هذه الأيام لما وجدنا الطفل الفلسطينى وقد استهان بفاجعة الموت، ولما جرؤ على استصغار عدوه رغم جبروته، ولما تشجع فواجه القنابل غير مرتعد ولا حتى مبالٍ بما يمكن أن تحدثه فيه من تأثيرات أبسطها الموت. ولعل صورة الموسم ستكون صورة الأطفال الأشقاء الثلاثة الذين غطى ملامح وجوههم البريئة غبار ركام نتيجة قنبلة إسرائيلية، وإذا بثلاثتهم يواجهون الموقف بابتسامة لامبالاة وتحدٍ، بينما رفع أصغرهم علمًا فلسطينيًا صغيرًا. كم تساوى هذه اللقطة العفوية من أطفال، عفوًا أبطال - صغار فى مقابل صور الذعر التى شاهدناها لجنود وضباط صهاينة ارتعدوا خوفًا من بنادق أبطال فلسطين.
مشهد آخر لطفل فلسطينى يقتاده اثنان من صناديد الكيان مدججين بالسلاح والعتاد بينما يمضى الفتى البطل بينهما ممشوق القامة مرفوع الهامة يبادلهما النظرات بندية وثبات. وتتكرر المشاهد ولكنها تلتقى عند نقطة واحدة وهى ثبات الأطفال لإيمانهم بعدالة قضيتهم، مع ذعر العدو رغم ما يمتلك من سلاح وعتاد وأموال ودعاية ودعم عالمى. الأمر الذى يؤكد أن أولئك الطغاة على قناعة تامة فى قرارة أنفسهم بأنهم مجرد مغتصبى حقوق هؤلاء الأطفال وأراضى أجدادهم. وهنا أتذكر قصيدة نزار قبانى لأطفال غزة فى الانتفاضة الأولى حين قال لهم: يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا. إنهم الجيل الذى سيجعل من عبارة «فلسطين حرة» واقعًا يعيشونه، وليس مجرد خيال أو أمنية أو حُلم.
تجاهل الجميع التفكير فى يوم هؤلاء الأطفال من أبناء غزة فلسطين وكيف يقضونه تحت القصف، بل أين ينامون، وكيف يتغلبون على عطشهم، ولا أقول جوعهم، بينما العدو يمنع عنهم دخول الماء والغذاء والدواء والغطاء والكساء. تناسى الجميع وسط ضراوة الأحداث حقوق الأطفال الفلسطينيين فى التعليم والغذاء والرعاية الصحية، بل حقهم فى الأمن. وقد نسمع غدًا مندوبى اليونيسيف وغيرها من منظمات المجتمع الدولى يبررون تقصيرهم وعجزهم عن حماية أطفال غزة بالقول إنهم لم يجدوا فى فلسطين أطفالًا ليقدموا لهم الدعم، فكل من صادفوهم هناك كانوا رجالًا.