رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلسطين.. إليكم الحقيقة

  وسط هذه الأحداث الدامية الجارية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، آلمني جدا ما أكدته لي الأيام والأحداث من أننا أمة لا تقرأ، وأن جهلنا بقضايانا المصيرية هو سبب نكبتنا الحقيقية. 

  ورغم مشاركة آلاف- بل قل ملايين- من شبابنا في مظاهرات داعمة للقضية الفلسطينية وللموقف المصري منها ظهر الجمعة الماضي، إلا أن هذا لا ينفي جهل آلاف من هؤلاء المتظاهرين بحقيقة القضية وأبعادها الإنسانية وجذورها التاريخية وتأثيراتها المستقبلية. الأمر الذي يؤكد تقصير مؤسساتنا الثقافية والإعلامية والتعليمية في توعية المواطنين بتفاصيل قضية العرب الأولى.

  وهنا وجدت من الواجب أن أكتب هذا المقال تنويها ببعض الكتب التي يتوجب على الراشدين من مواطنينا الاطلاع عليها في إطار هذه الجولة الجديدة من الصراع التاريخي العربي- الإسرائيلي. وتلك مرحلة أراها الأيسر والأسرع والأوجب الآن، وإن كانت هناك خطوات أخرى ينبغي القيام بها لإيصال القضية بأبعادها الحقيقية إلى الأحدث سنًا وإلى تلك الملايين التي لا تجيد القراءة والكتابة من مواطنينا في عموم البلاد العربية، فالدراما والأغنية والكارتون أو الآنيميشن، وغيرها من وسائل حديثة يمكن أن تكون أدوات مفيدة في ذلك الصراع الفكري الممتد بيننا وبين الصهاينة.

  أتذكر مثلا بعضا من الكتب التي قرأتها- في إطار رحلة البحث عن الذات والتعرف على حقيقة الأشياء- محاولا استيعاب أبعاد القضية الفلسطينية، تلك القضية التي كانت محورا لأحاديث كثيرة في وسائل الإعلام وأحيانا في المدرسة حين كنا طلابا عندما كان يصادفنا مدرس له قناعات وطنية وتوجهات عروبية. أذكر من تلك الكتب: الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية لعبدالوهاب المسيري، العرب وإسرائيل وفلسطين لعبدالعال الباقوري، فلسطين بالخرائط والوثائق لبهاء فاروق، القدس دراسة قانونية للأمير الحسن بن طلال.

  غير أنني لا يمكن أن أنسى كتابا مترجما حمل عنوان " فلسطين.. إليكم الحقيقة". لا أدري لماذا كان هذا الكتاب- بين كل ما كُتب وقرأت عن القضية الفلسطينية- هو الكتاب الأكثر إلحاحا عليّ من حين لآخر طوال تلك السنوات. ربما لأن كاتبه غير عربي والقاعدة عندنا أن الحق ما شهدت به الغرباء. الكتاب الصادر ترجمته العربية عام 1971 ترجمة الفلسطيني أحمد خليل الحاج، ومراجعة الترجمة للدكتور محمد أنيس. روعة الكتاب تتجلى من أولى صفحاته التي تمثل مقدمة رشيقة للطبعة العربية الصادرة في عام 1939 كتبها المترجم، إذ يقول: "إن هذا الكتاب لا يتناول المشكلة الفلسطينية كمشكلة سياسية وحسب، بل كجريمة دبرت عن عمد واقترفت مع سبق الإصرار والترصد". الكتاب إذن يمثل وثيقة اتهام صادقة يمكن أن تحكي ما حدث أمام محكمة التاريخ العادلة.

  أما مؤلف الكتاب فهو البريطاني الكاتب: جوزيف ماري ناجل جفريز (1880-1960)، يتم تعريفه كمراسل حربي، ومؤرخ، ومؤلف، حيث عمل مديرا لمكتب الديلي ميل البريطانية في باريس بين عامي 1914 و1933. خلال الحرب العالمية الأولى قام بزيارة عدد كبير من الدول بلغت 17 دولة. ومن بين أشهر تغطياته الصحفية تغطية الصراع في أيرلندا. وفي عام 1922 قام جفريز بزيارة فلسطين بصحبة مالك الجريدة. وقد حرص جيفريز في كتابه عن قضية فلسطين على ذكر الأسماء الحقيقية لمن قاموا بصياغة وعد بلفور كاشفا عن قصصهم الشخصية، أغراضهم ودوافعهم الحقيقية. كما يكشف الكاتب أيضا عن اللاعبين الدوليين الذين كانوا خلف الوعد المشئوم.

  تعرض الكتاب منذ صدوره الأول باللغة الإنجليزية لقدر كبير من الاضطهاد تمثل في شراء نسخ كثيرة منه وحرقها، فضلا عن شراء ذمم كثير من أصحاب المكتبات وشركات التوزيع البريطانية لتكديسه في المخازن وادعاء نفاده حتى لا يجد طالبوه نسخة منه. ثم خديعة الحكومة البريطانية للمؤلف حين تمنوا عليه عدم نشر الكتاب في حينه بحجة انشغالهم بمجابهة شبح الخطر النازي.

  "فلسطين.. إليكم الحقيقة" كتاب يعد وثيقة ضخمة وضعها المؤلف في 728 صفحة من القطع الكبير، وقسمها بين 40 فصلا، وقد وضع المؤلف مقدمة رائعة بلغت 12 صفحة. لم يأت هذا الكتاب انطباعيا ولكنه جاء وثيقة مرجعية استند فيها المؤلف إلى مراجع عديدة- أثبتها في الكتاب- بنى عليها دفاعه عن القضية الفلسطينية، ليصير كتابه في النهاية وثيقة في حد ذاته.

  يقول المؤلف إنه ساق حقائق نصفها على الأقل لم يأت على ذكرها أحد غيره، كما أن كثيرا من الوثائق التي أرفقها لم ينشر أحد قبله منها نصا واحدا.

  وإذا كانت بريطانيا العظمى تبوء بإثم "وعد بلفور" الذي كان نقطة انطلاق لتجميع اليهود على أرضنا العربية في فلسطين، فإن هذا الرجل بهذا الكتاب الذي يكشف ويوثق فيه حقيقة ما حدث لكفيل وحده أن يؤكد أن في بريطانيا وفي الغرب عموما رجالا يمكن تصنيفهم بأنهم بشر يمتلكون ضمائر حية وقلوبا مبصرة. ففي مقدمته الطويلة نسبيا حكى المؤلف رحلته الشاقة- وكل مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية- بحثا عن الحقيقة في ظل انحياز الحكومة والبرلمان البريطانيين للصهاينة مع الوضع في الاعتبار فقر العرب المدقع- في ذلك الحين- وفقر أنصارهم من البريطانيين الذين كان يمثلهم حينها بضعة جنود مُسرّحين، وحفنة من الضباط والموظفين السابقين في إدارة فلسطين، وكذلك بعض البريطانيين القاطنين لأرض فلسطين.

  وبموضوعية شديدة أقول إننا كعرب ينبغي علينا أن نعتذر لهذا المؤلف رغم سنوات رحيله التي طالت لعقود. فقد وقف بشجاعة شديدة يتهم الساسة والحكومات البريطانية بسلوك سياسات خاطئة في فلسطين، وأنهم انتهجوا سياسة فحواها الغش والزيف والضلال، إذ سلبوا العرب عنوة واغتصابا حقوقهم الموروثة في بلادهم. كما لم يعف المؤلف الحكومات البريطانية المتعاقبة من ذات الإثم، إذ لم يعيدوا النظر في أفعال سلفهم، كما أنهم تابعوا المضي في سياسات لم يتقصوا منشأها وفحواها.

  بشجاعة وبمعرفة كبيرة بالعقلية الصهيونية ذكر الرجل- في مقدمة كتابه- أنه سيكون عُرضة للاتهام بمعاداة السامية، ومن ثم فقد على التأكيد أنه لم يرتبط يوما بالمعادين للسامية، بل على العكس فإنه يرى أن اضطهاد اليهود في وسط أوروبا عار في جبين الإنسانية، وبذات القدر يرى أن فرض اليهود على العرب عار وسُبّة في جبين الغرب. ورغم كتابه المنصف هذا لم نجد من المؤسسات الثقافية العربية ولا من السياسيين العرب ولا من الأثرياء العرب من يحتفي بذكرى هذا الرجل ويكرم اسمه بجائزة تحمل اسمه أو إطلاق اسمه على مؤسسة ثقافية عربية معنية بحوار الحضارات. وإذا كان هذا الأمر لا يشغل كثيرا من العرب، إلا أنه أمر واجب على السلطة الفلسطينية أن تبادر بتكريم اسم رجل تحمّل الكثير من العنت والتهميش في بلاده نتيجة دفاعه عن قضيتنا ومساندته موقفنا وتأييده لنيل حقوقنا.