رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيينا.. عندما يتفوق الواقع على الخيال «٨-١٠»

بقيت فى مطار فيينا دون حراك حوالى ٣٠ دقيقة بعدما غادرت طائرة الثالثة والنصف المتجهة للقاهرة دون أن تصلنى تذكرة السفر، كان علىّ اتخاذ قرار هل أختار فندقًا قريبًا من المطار للإقامة فيه، أم أعود إلى فندق «فيليمنج» فى وسط فيينا؟، خشيت من عدم تمكنى من السفر غدًا، حسمت أمرى وتواصلت مع مسيو جاك، مدير شركة السياحة المنظمة لرحلتى، الذى دعم فكرة العودة للفندق. 

أخذت تاكسى من أمام المطار، فى الخامسة عدت للغرفة ٦٠٤ نفسها التى تركتها.. فى هذا التوقيت كانت إجراءات الدفن وصلاة الجنازة قد تمت فى البلدة فى دمياط، وبدأ زوجى فى تلقى العزاء فى والده العزيز.

وأخيرًا وصلتنى تذكرة السفر، بعد نجاح مساعى الزملاء فى الجريدة، اطمأننت لعودتى للقاهرة فى الغد، جلست على السرير، ألتقط أنفاسى، وأستجمع نفسى، وجدت حلوى الترحيب، فتحتها وكانت ورقة الحظ بداخلها تحمل عبارة: «First deserve، then desire»، كى تشتهى شيئًا عليك أن تستحقه، كنت حزينة لوفاة حماى، لكنه حزن خاص.. ففى كل تجارب الموت التى عشتها مع وفاة شقيقتى الصغرى ووفاة أبى ووفاة حماى كان الموت ملاكًا رحيمًا من آلام وتدهورات صحية تبدل حالة الإنسان وتسبب بؤسًا له وعذابًا لا يتحمله، فكنت أرى الموت نوعًا من الرحمة لمن أحبهم وكان كل من عرفتهم بشرًا بسطاء أنقياء، فتكونت لدىّ قناعة أن الموت هو مجرد مركب سينقلهم إلى العالم الآخر، وأن هذا العالم أفضل لهم وأنقى وأحسن. الحزن كان للفراق الذى يخفف وطأته إيمانى بالتواصل بين الأرواح وأنهم يشعرون بنا ويمكننا أن نشعر بوجودهم دائمًا. وقد يحزننى أكثر الأثر الذى يتركه رحيل أحدهم وقد ترك أطفالًا صغارًا تتغير حياتهم برحيله، أما من أدى رسالته فالموت تكريم له من معاناة وانهيارات ترتبط بطبيعة الجسم البشرى الفانى.

قررت الخروج من الفندق والتجول فى الشوارع المحيطة لتمضية الوقت وعدم الاستسلام لكآبة الحزن، سألت الريسبشن عن كيفية الوصول لوسط المدينة، فأرشدنى لمحطة الترام القريبة على بعد حوالى ٣٠٠ متر، أخذت الترام رقم ٤٩، قيمة تذكرة الترام ٢.٦ يورو وتوجد ماكينة داخل الترام تدفع بها قيمة التذكرة بالعملات المعدنية وتخرج لك التذكرة مطبوعة، دون كمسرى أو رقابة. لم تكن معى عملات معدنية، وقفت حائرة أمام الماكينة وفى يدى ورقة بخمسة يورو فتطوعت سيدة شابة وأعطتنى حفنة من العملات المعدنية وقالت لى هذه خمسة يورو، شكرتها بشدة، أعطيتها ورقتى وأخذت العملات دون أن أعدها، ولم أكن بحاجة لهذا فالثقة والصدق هو الشعور الذى يسيطر عليك وأنت فى فيينا.

نزلت آخر محطة للترام، لم يكن لدىّ أدنى فكرة عن المكان الذى سأذهب له أو ماذا سأشاهد، لكنها عادة اكتسبتها من زياراتى للعديد من المدن، أركب الترام وأتوجه لوسط المدينة، فحتمًا ستجد ما يستحق المشاهدة.

وبشكل عام تتميز فيينا كمدينة بالهدوء والنظافة الشديدة وانتشار المساحات الخضراء المفتوحة دون أسوار للمارين للاستراحة أو التنزه، وهى واحدة من أهم المدن الصديقة للبيئة وتنتشر فى هذه المتنزهات التماثيل والنُصب التذكارية للقادة والأحداث المهمة فى تاريخها.

على بعد خطوات من محطة الترام مررت بجوار مبنى البرلمان وبعده على نفس الخط المستقيم وجدت ساحة كبيرة يقام بها مهرجان الأفلام أمام مبنى البلدية، وقد انتشرت فى الساحة العديد من أكشاك بيع المأكولات، والمناضد والكراسى للجلوس، لم أكن قد تناولت فطورى اكتفيت بقهوة الصباح، بدأت أشعر بالجوع فتناولت من كشك إيرانى طبق أرز وكباب.

أكملت طريقى على الرصيف نفسه لأجد نفسى فى مواجهة المبنى الرئيسى لجامعة فيينا.. شعرت أن روح حماى ترافقنى، فلولا إصرارى على السفر للقاهرة لمواساة زوجى وبقية عائلتى لما تمكنت من رؤية هذا المبنى ولما شعرت بالدهشة والعجب، ومصدر عجبى واندهاشى هو السهولة التى سمحت لى بالتجول فى حرم الجامعة دون أن يسألنى أحد من حرس أو عاملين أو أى شخص عن هويتى وغرضى من الزيارة، أنا مَن ذهبت لمكتب الاستعلام الزجاجى، كى أسأله: ممكن أدخل بعد أن شاهدت طفلًا مع والديه يدفع الباب الخارجى للمبنى، فقال: ادخلى، ترددت وقلت له: عادى، أدخل عادى، فقال نعم: مسموح بالزيارة حتى الثامنة مساء، لديك ساعة، ودخلت المبنى الرئيسى لجامعة فيينا، أقدم جامعة فى النمسا وثانى أقدم جامعة فى الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد جامعة كارولينا فى براغ والتى تأسست عام ١٣٤٨، والتى حصل ١٦ من خريجيها على جائزة نوبل فى مختلف المجالات والمركز الـ١٣٢ على مستوى جامعات العالم والمركز الـ٤٦ فى مجال الآداب والفنون. تجولت داخل أدوار وحجرات الجامعة ووصلت لقاعات الدرس ومكاتب الأساتذة وتأملت تماثيل العلماء الخالدين الذين أفادوا البشرية وتتزين حوائط ساحة الجامعة بتماثيلهم، وحرصت على التقاط صورة بجوارة النافورة التى تشغل مركز الساحة، نافورة كاستاليا الحورية اليونانية الملهمة لمن يشرب من مائها، وخرجت من الجامعة وأنا لا أستطيع أن أعطيها ظهرى.. وفالس الدانوب يدعونى للتفكير فى هذه العظمة والبساطة الآسرة فى الوقت ذاته.

وتذكرت مقولة فرويد: العدالة أساس الحضارة.

وللحديث بقية.