رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسير «التهيؤات»

أسير التهيؤات لا يفلح أبدًا، يظن حين يدبر أو ينصب الفخاخ لغيره أنه فكّر وقدّر فأحسن التفكير والتدبير، وينسى أن لله الأمر من قبل ومن بعد، وأن الخير للإنسان أن يسلم لخالقه ويتقيه فى خلقه. قد ينصب الشقيق لشقيقه شركًا، يدقق فى حبكه، ويهيئ الظروف لاصطياده به، ثم يفاجأ بعدها بأنه كان يعد هذا الشرك لنفسه. لا ينطبق هذا المعنى على حدث كما ينطبق على ما وقع للسلطان «الكامل شعبان»، أحد ملوك الدولة القلاوونية، مع شقيقيه «حاجى» و«حسين»، وجميعهم من أبناء الملك الناصر محمد بن قلاوون. 

جلس الكامل زين الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون على سرير ملك مصر عام ٧٤٦ هجرية بعد موت أخيه الصالح إسماعيل. مثل كل سلاطين المماليك بدأ «شعبان» رحلته فى الحكم بالتخلص من الأمراء الذين كانوا يعملون فى معية شقيقه «إسماعيل»، وشرع فى تكوين فريقه الخاص للحكم، من مجموعة من الأمراء الذين رآهم أكثر إخلاصًا له، وجعل على رأسهم زوج أمه الأمير «أرغون العلاوى». اهتم «شعبان» كل الاهتمام بترتيب قصر الحكم من الداخل، وأطاح بكل من تشكك فيه، وكان ظالمًا لأغلبهم، لأنه كان مدفوعًا بتهيؤاته وهلاوسه وظنه بأن الكل طامع فى موقعه ويريد الإطاحة به منه، مما تسبب فى الختام فى ضياع ملكه.

فى عام ٧٤٦ وبعد أشهر من تولى الكامل شعبان المُلك وصلته أخبار بأن نائبه على الشام الأمير «يلبغا اليحياوى» خانه وخرج عن طاعته ويريد الاستقلال بالشام، نصحه الأمراء- الذين كانوا يدركون الهلاوس التى يعانى منها- بالتأكد أولًا من هذه الأخبار، إذ قد تكون مجرد تخيلات لا أساس لها فى الواقع، وأقنعوه أخيرًا بأن يرسل أحد الأمراء الذين تربطهم علاقة طيبة بـ«يلبغا اليحياوى» ليستطلع الأمر ويأتيه بالخبر اليقين. هاودهم السلطان وأرسل الأمير «منجك» إلى الشام للوقوف على الوضع هناك، ولكن سرعان ما بدأ يرتب أمره للخروج إلى الشام، غير آبه بما اتفق مع الأمراء عليه من أن ينتظر حتى يأتيه «منجك» الذى بعث به إلى الشام- لاستطلاع الأمر- بنبأ يقين.

انتشر خبر استعداد السلطان للخروج إلى الشام لتأديب نائبه الخارج عن الطاعة بين الأهالى، واضطربت أحوالهم أشد الاضطراب، وعمّق من ألم الناس مجموعة الإجراءات التى اتخذها «شعبان» بفرض المزيد من الضرائب على الأهالى، والقبض على بعض الأثرياء ومصادرة أموالهم، فانتشر الذعر بين الجميع، وتململوا منه ومن هلاوسه التى تجاوزت الحد، وزاد الطين بلة أن هلاوس الرجل لم تتوقف عند أمرائه أو رعيته التى يحكمها، بل تمدد أيضًا إلى شقيقيه من الأم الأمير «حاجى»، والأمير «حسين». فقد سيطر عليه إحساس بأن الاثنين يتآمران ضده ويكيدان له من أجل الإطاحة به من فوق سرير الملك، ليجلس أحدهما عليه مكانه، وبناء على هذا الإحساس قرر القبض عليهما.

أرسل الكامل شعبان «ساقيه» إلى شقيقيه، فقال لهما: «إن السلطان يطلبكما لتحضرا إلى الدهيشة»- والدهيشة أحد مبانى الحكم خلال الدولة القلاوونية وتقع بمنطقة «الدرب الأحمر»-فردا عليه بأنهما يعانيان المرض وقد تناولا دواءً وبحاجة إلى الراحة، غضب الكامل شعبان أشد الغضب، ونادى أحد الأمراء خاصته، وقال له: «امض إلى إخوتى وأحضرهما لى فى هذه الساعة»، نفذ الأمير الأمر وذهب، وقال لشقيقىّ «شعبان»: «قوما فكلّما السلطان»، فتعللا له من جديد بالمرض، استشاط السلطان غضبًا وأحضر زوج أمه وأميرين، وأمر الجميع بالذهاب إلى أخويه وجرّهما إلى القصر، وكان «حاجى» و«حسين» فى ذلك الوقت يرقدان بدور الحرم، فدخل لهما الأمير «أرغون العلاوى»، زوج أم «شعبان»، وأخرجهما، وسحبهما الأمراء على وجهيهما أمام الأهالى وهما يبكيان من فرط الشعور بالإهانة. فلما وقفا أمام السلطان قبّلا الأرض من تحته، واعتذرا له بالمرض وتناول دواء، فرد عليهما صاحب الهلاوس: «هذا كله كذب وحيل منكما». أخرج شقيقه «حاجى» أوراق فيها سور من القرآن الكريم وأقسم عليها بأنه صادق، وأنه وشقيقه «حسين» مريضان، لكن السلطان لم يصدق، ثم جاءت أمهاتهما فشهدتا بصدق الاثنين، لكن السلطان رد عليهما قائلًا: «أنتن نساء قليلات العقل». قرر السلطان حبس شقيقيه بـ«الدهيشة» وسط بكائهما وعويل أمهاتهما.

لم تمضِ سوى ساعات حتى جاء الخبر إلى الكامل شعبان بأن عددًا من الأمراء لبسوا عدة الحرب وأخذوا طريقهم إلى القلعة للتخلص منه، وأكد له زوج أمه الخبر، وكعادته تحرك الرجل برعونة، فأمر مباشرة بجمع مماليكه وتزويدهم بالسلاح وشد الخيل، وترك الدرب الأحمر متوجهًا إلى القلعة لإحباط المؤامرة. لم يجد «شعبان» حوله سوى مجموعة من المماليك الصغار محدودى القدرة والخبرة، وعلى رأسهم زوج أمه «أرغون العلاوى». ولما تواجه الفريقان تم أسر «أرغون»، وكان لذلك أثر شديد السلبية على الأمراء الصغار المحيطين بالكامل شعبان، فبدأوا فى الفرار واحدًا بعد الآخر، حتى لم يبق حوله فى الختام إلا أربعة من صغار المماليك، تم القبض عليهم، بعدها اضطر السلطان إلى الفرار، وهرول نحو القلعة، ووقف أمام باب السلسلة، وأخذ يدق عليه، ويترجى الحراس الواقفين خلفه أن يفتحوا له حتى يؤوى إلى القلعة، واستجاب له الحرس أخيرًا ودخل، فكر قليلًا ثم قرر الخروج من القلعة من جديد، بعد أن بيّت النية على قتل شقيقيه، ذهب إلى «الدهيشة» بالدرب الأحمر، حيث سجن شقيقيه، لكن الخدم رفضوا إدخاله، وأغلقوا الباب فى وجهه، بعد أن شعروا بأن السلطان يتخذ قراراته مدفوعًا بهلاوسه.

حاول العودة إلى القلعة لكن الحراس لم يستجيبوا له هذه المرة وأغلقوا أبوابها فى وجهه، فلم يكن منه إلا أن ذهب إلى دار أمه بحى القلعة واختبأ فيها. وبمجرد أن علم الأمراء بهرب الكامل شعبان تحركوا إلى الدهيشة ليخرجوا الشقيقين المحتجزين هناك، وأجلسوا «حاجى» على سرير الملك، وبايعوه سلطانًا لمصر مكان أخيه، ولم يكن للرجل أى يد فيما يحدث، لكنها تدابير الخالق. تم القبض بعد ذلك على الكامل شعبان، حيث وجده الأمراء مختبئًا داخل «زير مياه» فى بيت أمه، فخرج منه «مبلولًا» مذعورًا، وسيق إلى «الدهيشة»، حيث تقرر سجنه فى نفس المكان الذى احتجز فيه شقيقيه حاجى وحسين منذ ساعات. 

يقول أحد المعاصرين لهذه الواقعة إنهم كانوا قد أعدوا طعام العشاء للسلطان، واحتجزوا شيئًا منه لإرساله إلى شقيقيه بالسجن- حاجى وحسين- ليطعما منه، فإذا بعشاء «شعبان» يوضع أمام «حاجى» فى قلعة الحكم، وعشاء «حاجى وحسين» يوضع أمام السلطان السابق الكامل شعبان فى السجن.. وسبحان مَن يدبر الأمر.

كأن هلاوس النفوذ لا تفنى ولا تستحدث من عدم.