رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيينا.. عندما يتفوق الواقع على الخيال «6-8»

لم يكن دخول متحف بلفيدير Belvedere والتجول به ضمن برنامجنا السياحى، فقد كان مقررًا أن نقف أمامه ونلتقط الصور فى حديقته دون الدخول للقصر، لكنى لم أستطع أن أكون فى بلد غوستاف كليمت ولا أرى لوحاته دون وسيط. فمنذ ست سنوات أقوم بتحرير صفحة «مرايا الإبداع»، وفى كل عدد أقوم باختيار أربع لوحات لكبار التشكيليين المصريين والعرب والعالميين لنشرها مع النصوص القصصية أو الروائية أو الشعرية، ويكون مرفقًا بكل لوحة اسم وجنسية رسامها وتاريخا ميلاده ووفاته، فى محاولة لنشر ثقافة الفن التشكيلى. على مدى هذه السنوات شاهدت مئات اللوحات وقرأت عن عشرات الفنانين وأهم المدارس والاتجاهات الفنية الكلاسيكية والحديثة.

طلبت من الأصدقاء فى الرحلة أن يسمحوا لى بالبقاء فى قصر بلفيدير وينطلقوا هم لاستكمال بقية الجولة لمشاهدة مبنى الأوبرا وكنيسة القديس ستيفن، على أن أطمئنهم علىَّ بعد عودتى للفندق.

استقبلنى فى مدخل الحديقة نُصب كبير للرقم ٣٠٠، حيث يتاح التقاط الصور التذكارية احتفالًا بمساهمة المتحف فى الحركة الفنية العالمية لمدة ثلاثة قرون، فهذا القصر الضخم ذو الحديقة الفريدة التى تشبه حديقة قصر فرساى هو أحد أول المتاحف العامة فى العالم وأول متحف للفن المعاصر فى فيينا، وكلمة بلفيدير وهى مشتقة من كلمتين إيطاليتين، «بيل»، وتعنى «جميلة»، و«فيديرى»، وتعنى «المنظر».

هذا المبنى التاريخى كان مسكن الأمير يوجين من سافوى، القائد الذى نجح فى هزيمة العثمانيين، ومن بعده أصبح مقر عائلة هابسبورغ أثناء حكمها الإمبراطورية النمساوية المجرية وهو حاليًا عبارة عن متحف مفتوح للجمهور فى عام ١٧٨١ أى بعد فترة حكم ماريا تريزا وابنها جوزيف الثانى مباشرة.

فى متحف بلفيدير كنت على موعد مع عدد كبير من روائع الفن العالمى، التى سبق أن شاهدتها إلكترونيًا عبر مواقع صفحات الفن التشكيلى، وكما كنت أبحث عن لوحات التشكيليين الانطباعيين: رينوار، مونيه.. فى متحف أورسى فى باريس، كنت أسعى خلف أهم التشكيليين النمساويين: غوستاف كليمت وأشلى، أوسكار كوكوشكا، فهؤلاء من أسسوا الحركة الفنية الانفصالية فى فيينا «١٨٩٨»، التى قادت الفن التشكيلى فى دروب جديدة لم تكن مطروقة من قبل، واعتمدت على ما قدمه العلم الحديث ومدارس التحليل النفسى من تعريفات جديدة للزمن وللنفس الإنسانية، فعبروا عن الحيرة والضعف والاضطراب والأحلام والهلاوس البشرية.

فمنحتنى مقتنيات المتحف ما تمنيت وزيادة.. فشاهدت لـ«كليمت» العديد من البورتريهات التى تحمل بصمته المميزة بالزخارف والنقوش، وبخاصة استخدامه المكثف للون الذهبى، وتشكيلاته التى تنصهر فيها سمات أهم المدارس الفنية الحديثة، كالانطباعية التنقيطية والوحشية والرمزية والتعبيرية.

ويعود ولع «كليمت» باللون الذهبى إلى تأثره بالفن البيزنطى، حيث يعتبر اللون الذهبى رمزًا لكل ما هو مقدس ورصين وفخم. وقد استخدم «كليمت» اللون الذهبى مع الزخارف المثلثة والفراغات الفرعونية والثنيات اليابانية، فى لوحاته، وأشهرها لوحة القبلة، التى تكاد تكون قطعة من الذهب الخالص.

اشتهر «كليمت» بأنه رسام المرأة، فقد جسد عبر لوحاته بورتريهات لعدد من نساء الطبقة البرجوازية فى فيينا، فشاهدت لوحات، «جوانا ستود، لوحة العروس، السيدة ذات الرداء الأسود».

يحتوى المتحف على عدد من اللوحات لم تكتمل، مثل لوحة «إيميلى زوكركندل»، وهى لوحة لسيدة برجوازية يهودية، تم قتلها فى معسكرات النازى، وظلت اللوحة ملكية خاصة حتى أودعها مالكها عام ١٩٨٨ فى متحف بلفيدير.

أتاحت لى جولتى بالمتحف التعرف على جانب آخر من أعمال «كليمت»، وهو رسومه المناظر الطبيعية، حيث لم يكن قد سبق لى رؤية هذه الأعمال التى تقترب كثيرًا من الأعمال الانطباعية، حيث اختار زهرة عباد الشمس لتكون الموضوع الرئيسى لأكثر من لوحة يتوهج فيها الأصفر الذهبى وتتمدد حوله الخضرة اللا نهائية للأعشاب، مع لمسات تنقيطية لزهور بنفسجية وبيضاء وحمراء.

من المفاجآت الجميلة رؤية لوحة «نابليون يعبر جبال الألب»، للرسام الفرنسى «جاك لوى ديفيد»، وقد رسمها عام ١٨٠٥، وهى من اللوحات الضخمة التى تشغل حائطًا كاملًا فى الجزء الخاص باللوحات الحربية، إذ يبلغ ارتفاعها أكثر من مترين ونصف المتر، ويبلغ عرضها مترين و٣٠ سم، وتصور اللوحة حالة الشموخ والعظمة والتفوق العسكرى الذى حققه نابليون فى أوروبا.

ورؤية لوحة الأحلام «١٩١٣» للفنانة الألمانية النمساوية «هيلين فونكه» «١٨٦٩- ١٩٥٧»، وهى لوحة تصور عددًا من السيدات فى وضعية الاسترخاء، ورغم تقاربهن الجسدى الذى تزدحم به اللوحة، إلا أن كل واحدة قد انفصلت عن الأخريات بالتحليق فى عالم الخيال والأحلام، الخاص بها، تتميز اللوحة بألوانها القوية الصريحة، كالأخضر والأزرق والأحمر والأصفر، ما يذّكر المشاهد بأعمال هنرى ماتيس وألوان المدرسة الوحشية.

عشرات اللوحات شاهدتها، حتى نال منى التعب، ولم أكن قد تجولت سوى فى دور واحد من دورين فى القصر الكبير، فهو متحف يحتاج لأيام للاستمتاع بما فيه، والتأمل فيما قدمه الفن التشكيلى للإنسانية، وهو جهد عظيم يستحق الخلود.

وللحديث بقية..