رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عسل السنيورة».. قصة المجتمع المصرى بين تنوير الحملة الفرنسية ومآسى الاستعمار

الحملة الفرنسية
الحملة الفرنسية

تكاد الكتابات عن دخول الحملة الفرنسية إلى مصر «١٧٩٨- ١٨٠١» تُجمع على وصف تلك اللحظة التاريخية بالصدمة؛ صدمة وعى فيها مجتمع ما قبل الحداثى بحقيقة ترديه، فقد كان الغزو العسكرى الكاشف عن تفوق أوروبى مقابل بدائية عربية صادمًا وموجعًا، لكنه كان أيضًا مُحرّكًا ودافعًا نحو البحث عن سبل الاستفاقة من الإغماءة التاريخية آنذاك. 

هذه السردية الأكثر ذيوعًا لتلك الحقبة هى محور رواية «عسل السنيورة»، للكاتب شريف سعيد، لكن الكاتب فى تعاطيه مع تلك السردية يغادر الروايات الشائعة والرسمية والمدرسيّة، بل إنه يجافى حتى الروايات التى يرددها المثقفون وأطروحاتهم الفكرية، المتمحورة حول كُنه الحداثة العربية؛ محل الاستشكال فى الكتابات الفكرية العربية إلى اليوم، نحو رواية أخرى للتاريخ يسردها المهمشون؛ الأفراد العاديون الذين لفظتهم الكتابات التاريخية مع أنهم اكتووا بنيران معارك لم يختاروا أبدًا الخوض بها. فبينما تروى جُل الكتب التاريخية عن رواد الحملة الفرنسية وانتصارات أبطالها أو حتى خطابات مقاوميها لتصنع سردية شبه رسميّة، تأتى الرواية لتصنع سرديتها الخاصة بمنح أدوار البطولة لمن هم خارج الأضواء، ولتفاصيلهم الهامشية التى تصنع معًا فسيفساء لتاريخ بديل، قد يكون أكثر حميمية وإن كان ليس بالضرورة أكثر حقيقية.

الوجود الفرنسى بمصر

تطوف الرواية عبر نظر جوليا؛ السنيورة «وهى امرأة من أصل إيطالى عاشت فى فرنسا وقدمت مع الحملة الفرنسية إلى مصر» حول فترة الوجود الفرنسى بمصر والمقاومة له، ثم خروج الفرنسيين وعودة المحتلين العثمانيين، فحكم محمد على وما شهده من الثورة الوهابية، هذا التطواف لا يضع الحادثة التاريخية فى صدارة اهتمامه بقدر ما يسعى لتلمس أثر هذه الحادثة أو تلك على عامة الناس ومصائرهم ورؤاهم. تبدأ الرواية بزيارة القنصل الفرنسى المساعد لسيدة ستينية تُدعى جوليا، استقر بها المقام فى مصر لما يربو على ثلاثين عامًا بعد رحيل الفرنسيين، فاندمجت حياتها بحيوات المصريين وصار مصيرها مشتبكًا مع ما يؤول إليه مصيرهم. ومن منظار جوليا، تُرى تلك الحقبة من التاريخ المصرى، ومن ثم تتمكن الرواية من أن تجرى مقابلات بين فكرين؛ الفكر الأوروبى آنذاك المُشبّع بقيم الحرية والتنوير والفكر السائد بين عموم المصريين الرافلين فى جهالاتهم والقانعين بها حد التشبُّع.

صورة للمجتمع المصرى

تقدم الرواية صورة للمجتمع المصرى عبر قصص حياة العامة، وبالتركيز على قصة «حُسنة»؛ الفتاة الريفية الضريرة من قرية أطلق عليها الكاتب «مُر الهوى»، والتى كان جزاء عشقها الذى أثمر جنينًا فى أحشائها أن حُكم عليها أن تُطرح بالعراء مجردة من ملابسها مع رضيعتها، لتقاسى وضعًا غير آدمى فقط للحفاظ على حياتها والإبقاء على طفلتها. 

من خلال قصة «حُسنة»، التى تلتقيها جوليا وتنقذها من الهلاك، تُرسم صورة عن مفاهيم الشرف القاسية التى تدفع ثمنها المرأة دائمًا بضراوة وتُحاكم بسببها بوحشية، فالرجال فى الشرق «لا أقرب من مشجب النسوة يعلقون عليه خيباتهم»، و«فى مصر الأنثى وحدها تتحمل كلفة عار الحكايات». 

جانب آخر تبرزه رواية التاريخ من أسفل عن المجتمع المصرى فى تلك الفترة وهو إيمان أفراده الشديد بكرامات الأولياء وبقدراتهم الفائقة، فعلى الرغم من «الأسطرة» التى تُنسج من خلالها معظم تلك القصص والتى تكشف عنها الرواية أيضًا بسلاسة، فإن الاعتقاد بقدرات هؤلاء على فك الضائقة وحل المشكلات لم يتزعزع رغم توالى الشدائد وعجز هؤلاء الأولياء عن مد يد العون. 

الجانب الخفى لعظماء التاريخ

مثلما تنظر السنيورة إلى المجتمع المصرى بعينين مشدوهتين تراقب عاداته وأفكاره، فإنها تنغمس مع الفرنسيين الذين جلبتهم الحملة إلى مصر فى علاقات تكشف عن جوانب لا يوليها التاريخ الجانب الأكبر من تاريخه؛ فنابليون بونابرت البطل القائد يظهر فى الرواية عاشقًا مهزومًا وضعيفًا، وديفو، ضابط الحملة الفرنسية وزوج جوليا الأول، يخفى خلف بذلته العسكرية عجزًا جنسيًا يحوّل مصيره، وكذلك فرانسوا برنوييه، رئيس خياطى الحملة الفرنسية، يُرى فى الرواية عبر قصة عشقه لجوليا التى زهدها بعد أن تعلقت أهدابه بفتاة ريفية تدعى فاطمة عاشرها سرًا خلف غطاء شرعى وفره زواجها بآخر من دينها. 

تكشف قصص العشق والوله الكثير عن طبائع الرجال التى أغفلها التاريخ فى خضم انشغاله بالنصر والهزيمة والأبطال والمسحوقين، تلك القصص يُماط اللثام عبرها عن جوانب أخرى معتمة خلف صور زاهية؛ فنابليون المهزوم عاطفيًا من زوجته يروم تعويض خسارته بزينب ابنة الشيخ البكرى، نقيب الأشراف، الذى رغم صورته الزاهية باع ابنته حفاظًا على منصبه، وشيخ العرب محمد أبومنصور أبوقورة، الرجل الصلد الذى قاوم الفرنسيين بالمنصورة، يحضر هنا بصفته العاطفية وبضعفه أمام جوليا التى حاز عليها بعد وقوعها فى الأسر وتزوجها.

الحداثة القشرية

لا تطرح الرواية فقط سردية مغايرة لحقبة تاريخية ثرية، ولكنها تجعل القارئ ينظر إلى تلك الحقبة من منظور الراهن ليتساءل عن مصائر الأفكار البالية التى عششت آنذاك وقادت إلى مصائر أليمة، تلك المقاربة تكشف عن أن ما تحقق بعد قرون فى العالم العربى لم يكن سوى حداثة قشرية لم تنفذ إلى لُب الأنساق الثقافية المهيمنة ولم تُغير بها سوى النزر القليل، فما زالت المرأة هى المشجب الذى يعلّق عليه الشرقى كل خيبة، وما انفك الكثيرون يصرون على إضفاء قداسة على ما لا قداسة له، كما لم يبرح إقحام الدين فى النظر إلى ما هو سياسى الساحة تمامًا رغم ما سببه من توالى المحن. من منظور الحاضر، تكون الرواية فرصة لإعادة النظر فيما أنجزته صدمة الحملة الفرنسية؛ صدمة الحداثة منذ حدوثها وحتى اليوم، لا انطلاقًا من تحليلات المثقفين والمفكرين لها وإنما من الواقع الاجتماعى الهامشى والمطمور، ومن النظر إلى ما أغفله التحديث فى رحلته، وعلى رأسه التعليم الدينى الذى تغافلت رحلة التحديث عن الاهتمام به فتجاهلت تحديث الأزهر «ليظل المكان راقدًا فى العصور التى شيدت فيها جدرانه الأولى ومآذنه». 

خطاب الرواية

على الرغم من أن خط السرد من أسفل يبدو منتصرًا لما جرى إهماله وتهميشه عبر لغة جزلة ومدهشة- وإن كانت قد اكتفت بذاتها فى أكثر من موضع دون رغبة فى وصول لغاية- فإن الخطاب العام للرواية يبدو وكأنه يعيد إنتاج ثنائية تقليدية تليدة؛ التقدم الذى حملت مشعله الحملة الفرنسية وجاءت لتنير به أراضى معتمة والتخلف الذى أسسته الخلافة العثمانى باسم الدين، ليقف السرد الروائى بالنهاية إلى جوار منظور الاحتلال وينافح عنه فى سبيل مواجهة ورفض الجانب الآخر من الثنائية. 

ففى الرواية لا تبرز صلة مجىء نابليون إلى مصر بأطماع بلاده الاستعمارية والاستحواذية، فنابليون لا يريد مصر مستعمرة، وإنما يريدها مدًا لجمهورية فرنسا فى الشرق، إذ يؤكد «مصر الآن بحاجة إلى صدمة تنعش لها ذاكرتها، وتعيد إليها حضارتها المطمورة». تنافح الرواية عن «نور» الحملة الفرنسية، الذى لا ينبغى مقاومته، وإن حدث فالعنف مبرر إذ «لا حراجة فى جسد التاريخ تجرى دون ألم. القرون تتوالى والمصريون لا يشعرون بأنهم جميعًا فى قاع بئر يوسف متكدسون ينتظرون قافلة تمر».

يعزز الخطاب الروائى فكرة شق صدمة الحملة الفرنسية طريقًا للمصريين نحو وعى بضرورة النهضة، وحمل الفرنسيين مشعل التنوير بغية إنهاض المصريين من رقادهم، وهى فكرة جرى دحضها فى كثير من الأطروحات التاريخية البديلة التى سعت لإثبات أن بذور الحداثة كانت تنبت فى البيئة المصرية، وكان بوسعها أن تترعرع دون تدخل خارجى رغم الأوضاع البائسة قبل مجىء الحملة، وأن النهضة لم يقيض لها النجاح التام لأنها أتت مع الغزاة وفى ركب مطامعهم، وهى أطروحات نأى عنها الخطاب الروائى الذى بدا مُنافحًا عن طرف الثنائية؛ النور الفرنسى الذى حل ليبيد الظلام العثمانى وغاضًا البصر عما يمثله هذا النور من آثام استعمارية بغيضة لا تزال المنطقة العربية بأكملها تدفع ثمنها باهظًا.