رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اطمئنوا المسرح المصرى بخير

قد تُغضب نتائج الدورة السادسة عشرة من المهرجان القومى للمسرح المصرى، البعض، وتسعد البعض الآخر، شأن أى مهرجان تنافسى، لكن تظل الجائزة الحقيقية هى المتعة المسرحية؛ ما نحصده من متعة ونحن نلاحق العروض من مسرح لآخر، وما يحصده الفنانون من متعة وهم يقدمون عروضهم للنقاد والجمهور ولجنة التحكيم.. وتلك اللحظة السحرية التى يقف فيها الممثلون يحيون الجمهور: المقتول توًا فى العرض المسرحى واقف بجوار القاتل متشابكى الأيدى. 

تنقل محبو المسرح خلال قرابة الـ١٥ يومًا ما بين حوالى ١٥ فضاءً مسرحيًا، ليشاهدوا ٣٧ عرضًا من ١٢ جهة إنتاج مسرحى، تنوعت ما بين مسرح حر، وهواة، ونقابات، والمسرح الجامعى، وعروض أكاديمية الفنون، والبيت الفنى للمسرح، ومركز الهناجر للفنون، ومسرح الهيئة العامة لقصور الثقافة، وصندوق التنمية الثقافية، ودار الأوبرا، ومسرح وزارة الشباب والرياضة، ومسرح الشركات.

رأى الجمهور ٣٧ عرضًا جرى انتخابها وفقًا لذائقة لجان المشاهدة، من بين آلاف العروض المسرحية، لذا فربما هناك العديد من العروض الجيدة أيضًا لم يُعرض، وربما هناك عروض جيدة لم تتقدم للمهرجان بالأساس. 

هذا الكم يجعلنا نعيد طرح السؤال على أنفسنا: هل حقيقة توجد أزمة إبداع مسرحى، أم أننا نحتاج لإعادة تحديد مواضع الأزمة؟ لطالما شعرنا جميعًا بالقلق على مستقبل المسرح المصرى فى وضعه الراهن، إذ تواجهه تحديات كبيرة بسبب ضعف آليات الإنتاج، وانحسار بعضها، وقلة عدد المسارح، وتزايد الرقابة وفعلها فى العروض، إضافة إلى ضعف التسويق.. وكلها مشاكل حقيقية و تحديات كبيرة ربما فى بلد آخر كانت ستودى بالصناعة.

وقد كنت محظوظة لأننى استطعت خلال هذه الدورة مشاهدة ٣٠ عرضًا مسرحيًا، وعبر مشاهدتى أستطيع أن أقول بثقة إن لدينا تحديات فى الصناعة وآليات الإنتاج، لكن فيما يخص الإبداع: اطمئنوا.. المسرح المصرى بخير.

هناك ما لا يقل عن ١٢ عرضًا مسرحيًا لفت انتباهى من بين ٣٠ عرضًا، وهى نسبة ليست بالقليلة؛ فقد قدم البيت الفنى للمسرح هذا العام موسمًا قويًا وعروضًا مميزة وأكثر اتساقًا مع هوية مسرحها، فضلًا عن عروض جهات الإنتاج الأخرى، لكن ما أكثر ما كتب عن عروض البيت الفنى، لذا سأتوقف تحديدًا عند موضوعات بعض عروض الشباب التى تعكس جدية الطرح وطزاجة المعالجة. 

موت معلق «المعهد العالى للفنون المسرحية- أكاديمية الفنون» أى جرأة تدفع شبابًا- كان أمامهم أن يرجحوا الاختيارات السهلة ويقدموا نصًا مسرحيًا جاهزًا- ليتصدوا لإعداد رواية «انقطاعات الموت» لساراماجو، التى تدور حول فرضية أن الموت توقف عن زيارة قرية، وأصبح فيها عدد كبير من حالات الموت المعلق لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة.

يتبدى مع تلك المعضلة جمال الموت، وتنهار الأدوار.. كيف ستعمل الأنظمة الصحية والشرطة أو الكنيسة على شعب لم يعد يخشى الموت؟ وقد استطاعت المعدة إسراء محبوب تكثيف الأحداث وإعادة صياغة السرديات فى حساسية مسرحية مميزة، كما استحدثت هى والمخرج كريم الريفى خطًا كوميديًا لتخفيف الأثر النفسى الثقيل للموضوع.

 

الرجل الذى أكله الورق «فرقة جروتيسك المستقلة»

يثبت هذا العرض أن هناك مخرجًا مسرحيًا واعيًا، انشغل بما تفعله الرأسمالية فى الإنسان. يدور العرض حول محاكمة «إلياس بيلوبر» كاتب الحسابات، الذى رغم عمله الشاق لا يستطيع الوفاء بالتزامات الحياة، وحين يمرض يلجأ للاقتراض من شايلوك المرابى، الذى يشترط اقتطاع رطل من لحمه إذا عجز عن سداد الدين.

يحاول الدفاع دفع تنفيذ شرط شايلوك القاسى، فيذكرهم بأنه وفقًا للقانون الإنجليزى عليهم أن يقتطعوا هذا الرطل دون إراقة نقطة دم واحدة، وإلا التزم شايلوك بالتنازل عن ثلث ممتلكاته لبيلوبر.. لكنه يفاجأ بفساد تلك الحجة حين يثبت الطبيب أن جسد بيلوبر خالٍ من الدم.

أحدب نوتردام «جامعة عين شمس» 

استطاع العرض تقديم عمل كلاسيكى مثل «أحدب نوتردام» بمعالجة عصرية، إذ يتبنى القس الطفل المشوّه، ويجعله قارع أجراس الكنيسة، ويهيمن عليه تلك الهيمنة على عقول البسطاء والمهمشين، التى تتم بالتحالف ما بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.

وحين يحب الغجرية أزميرالدا وينحاز لها كما يحن المهمشون لبعضهم دومًا، يشعر بقوته، ويستطيع أن يرى الحقائق ويتبين فساد مربيه، واستخدم المخرج الممثلين وأجسادهم ليكونوا بمثابة أسوار متحركة، وكأننا نحاصر أنفسنا بأنفسنا. كما كان التناغم عاليًا بين المجموعات وكذلك توظيفه للموسيقى الحية.

العادلون «فرقة بورسعيد الإقليمية»

قدم المخرج محمد يسرى نص ألبير كامو «العادلون»، الذى يطرح العديد من القضايا الشائكة؛ وتدور أحداثه فى فترة الثورة الفرنسية، إذ يخطط بعض الثوار لاغتيال الدوق ورئيس الشرطة، ويطرح العرض سؤالًا مهمًا: هل يمكن أن يكون القتل/ العنف، حلًا؟ وهل هو حقًا أداة تغيير، أم أننا لن نجنى سوى أن نصير جميعًا قتلة؟

ثلاثة مقاعد فى القطار الأخير «كلية الإعلام- جامعة القاهرة»

العرض من تأليف وإخراج مايكل مجدى، ويتناول قصصًا حقيقية لثلاث فتيات انتحرن بسبب ارتباك العلاقة بالأهل والمجتمع، ويدق ناقوس الخطر فى مجتمع أصبح منفتحًا على نحو يفوق قدرتنا على السيطرة.. ويؤكد أن الفهم والحب لا شىء غيرهما قادر على إنقاذ أرواح جهزت تذكرتها لمغادرة الحياة.

فى الحقيقة، أُثمّن اختيارات الشباب الجادة، وتناولهم الجمالى الطازج لموضوعات بتلك الأهمية، وكنت أخشى ألا يبقى لنا من المسرح إلا عروض بلاستيكية تحظى بإعجاب النقاد والجمهور، وفقًا لـ«مسطرة» المعايير الجمالية التقليدية، لكنها لا تحتوى على نقد عميق أو صادق، لذا فإن أكثر ما يميز تلك الدورة أنها بمثابة إعلان عن أن المسرح باقٍ، ويعاود حضوره ومفاجأتنا كلما ظننا أنه يغادرنا.