رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيينا.. عندما يتفوق الواقع على الخيال «1-8»

أخيرًا قمت بزيارة فيينا عاصمة النمسا.. لم تأتِ الزيارة صدفة.. لكنها جاءت استجابة لرغبة تكونت على مدار سنوات طويلة، شوق كونته أغنية وفيلم وفى الخلفية «سبب لقيام حرب».

الأغنية هى «ليالى الأنس فى فيينا» للمطربة أسمهان، بالطبع استمعت إلى كلماتها التى كتبها الشاعر أحمد رامى، مع الكلمات الملهمة والصوت الساحر تتكون فى خيال طفلة صغيرة صورة أسطورية لمدينة فيينا، فهى مدينة الأنس والأنغام والصفاء وهى نفسها روضة من الجنة، يتجمع فيها الخلان والطير، تتفوق فيينا فى مخيلتى من جمال وصف رامى وسحر صوت أسمهان.. على مدن ألف ليلة وليلة. وتزداد أسطورية «فيينا» مع مشاهدتى فى التليفزيون فيلم «غرام وانتقام» إخراج يوسف وهبى، فالأغنية لا علاقة لها بأحداث الفيلم، ولكن البطلة قدمتها فى لحظة وداع لجمهورها لأنها ستعتزل الغناء بعد زواجها، فبقيت «الأغنية» حالة فى حد ذاتها، لا ترتبط بسياق الفيلم وأحداثه.. لا أمل من سماع الأغنية أو مشاهدة الفيلم، لكن الأيام ستكون قادرة على أن تجعلنى أطرح تساؤلات معرفية، لا تهدم أسطورية الارتباط الشرطى فى ذهنى بين فيينا وليالى الأنس، ورنين الكأس، وبكاء وغناء الطير والجنة، أسئلة من نوعية: كيف كتب رامى هذه الأغنية؟ هل زار رامى فيينا؟ 

والإجابات التى ستتكشف لى ستزيد من غموض صورة فيينا فى ذهنى، لأنه لا توجد إجابة صريحة، فعام إنتاج الفيلم ١٩٤٤ هو أحد أعوام نهايات الحرب العالمية الثانية، وفى هذا التوقيت كانت فيينا خاضعة لحكم النازى الذى بدأت جيوشه فى التراجع والتقهقر وتلقى الهزائم، وبدأت فيينا تتعرض للقصف من الحلفاء، فعن أى جنة كان يكتب رامى؟ وأى أنغام؟ والمدينة لا صوت يعلو فيها على صوت التفجيرات وطلقات الرصاص وأهالى المدينة فى حالة من البؤس تثير الرثاء! 

هذه الحقائق القبيحة لم تعرفها الطفلة التى كُنتها، وظلت فيينا ساكنة فى عالم الخيال، مدينة مخفية، قد لا تكون موجودة فى الواقع الذى أعرفه، حتى وصلت لسن الثانية عشرة، وفى الصف السادس الابتدائى تعود النمسا للظهور فى سطر واحد فى كتاب التاريخ يقول: إن إغتيال ولى عهد النمسا كان السبب الرئيسى فى اندلاع الحرب العالمية الأولى. 

وتتعرف الصغيرة على دول المحور ودول الحلفاء، وبداية الحرب ١٩١٤، ونهايتها ١٩١٨ وتأثير الحرب على الإمبراطورية العثمانية التى كانت مصر تابعة لها، وحصول مصر على الاستقلال، وظهور الثورة البلشفية فى روسيا ١٩١٧، لكن لا أحد يذكر لى اسم الأرشيدوق فرانز فرديناند الذى اغتيل هو وزوجته «صوفى» فى ٢٨ يونيو ١٩١٤، أثناء زيارتهما سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، ولم يخبرنى أحد أن قصة الحب التى جمعت بين الأرشيدوق وصوفى التى هى من طبقة النبلاء ولكنها ليست من عائلة مالكة، وأن إمبراطور النمسا الذى هو عم «فرانز» لم يحضر حفل زفافهما ووافق على الزواج بشرط أن يكون زواجهما: «Morganatic marriage» وهو زواج بين رجل ولد فى طبقة راقية «مثل الملكية أو العائلة الحاكمة»، من امرأة من حالة أقل «مثل غير الملكية أو عائلة غير حاكمة أو بمهنة تعتبر تقليديًا حالة دنيا». وليس للعروس ولا لأى ابن من الزواج أن يطالب بألقاب العريس، أو حقوقه، أو الممتلكات المترتبة على ذلك. فى حين يعتبر الأبناء شرعيين، وينطبق حظر تعدد الزوجات، كما يعرف بالزواج الأعسر، لأنه فى حفل زفاف يمسك العريس يد عروسه اليمنى بيده اليسرى بدلًا من يـُمناه.

وبناءً على هذا الزواج لم يكن من الممكن لصوفى مشاركة «فرانز فرديناند» في منصبه... ولا مشاركته في مجده أبدًا، ولا يمكنها حتى الجلوس إلى جانبه فى أى مناسبة عامة. وكانت هناك ثغرة واحدة يمكن أن تحظى زوجته بالتقدير المناسب لمنصبه في حال كان يعمل بصفته العسكرية. فقام الرشيدوق وقتها بزيارة للبوسنة التابعة للنمسا وتفقد وحدات الجيش فى العاصمة سراييفو، فكان بإمكان الأرشيدوق وزوجته الركوب فى عربة مفتوحة جنبًا إلى جنب... وكان يوم ٢٨ يونيو الذكرى السنوية الرابعة عشرة لزواجهما. وهكذا كما يذكر المؤرخ «ألان جون بيرسيفال تايلور»: «من أجل الحب، ذهب الأرشيدوق إلى موته». وتخرج فيينا من عالم الخيال لتدخل عالم الغموض، هناك كيان وتاريخ وإمبراطورية، وأباطرة وحكام وصراعات وأنواع زواج ومصالح، نقطة.. خلف نقطة يتكون لدىّ شغف مستديم بالنمسا التى لا أعرفها، وتبدأ الخبيئة بالكشف عن نفسها، وتتكون لحظة التنوير الممزوجة بانبثاق الوعى بعد مشاهدة فيلم «المخادع» The Illusionist عام ٢٠٠٦، تدور أحداث الفيلم فى مدينة فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية المجرية سنة ١٨٨٩. تجمع الأحداث بين عظمة القصور الإمبراطورية وغواية الحب وسحر السينما وانسحاق النفس البشرية. 

بعد مشاهدتى الفيلم تعود فيينا للذاكرة القريبة، لا تفقد أسطوريتها، لكنها تصبح قريبة فى متناول أحلامى، بمرور الأعوام والقراءة عن أحلام فرويد، وعلماء فيزياء الكم ومشاهدة فيلم أماديوس، والاستماع لسيمفونيات بيتهوفن وفالس الدانوب، تكتسب فيينا كينونة وموقعًا على خريطة العالم، وأبدأ فى البحث عن السفر إليها.. وبالفعل تبدأ رحلتى لفيينا.. حيث الواقع أكبر من الخيال.

وللحديث بقية..